للثقافة شؤون‚ أشكال و مفاهيم أعتقد أن الكثير منا فكر في فترة ما من حياته أن الثقافة تساوي نشاط و حيوية بمفهوم الأصوات المرتفعة‚ و ربما الرقص بالإضافة إلى الغموض و عدم الوضوح في بعض الحركات إلى حد تصور البعض منا أن الثقافة تعني التسلية و الترفيه.
لقد كنت و ربما أنت أيضا أيها القارئ الكريم أفكر في بدايات وعيي في هذه الحياة أن الثقافة معناها الصخب إلى حد الضجيج‚ مع مرور السنوات وإقبالي على بداية العشرينيات من العمر بدأ شيء من الاستقرار الذهني و شعرت أن الأمر فيه نظر لكن و الجزائر في تلك الفترة أي الثمانينيات من القرن الماضي كانت تستعد‚ و كنا جميعا نستعد لبداية الجنون الذي أصابنا جميعا و لو بدرجات مختلفة.
و ربما يحتم علي المقام هنا و تربيتي أيضا أن أستعمل عبارة إلا من رحم ربك أي قد أصبنا بالجنون جميعا إلا من رحم ربنا.
لقد حدث ذلك في فترة كنا أيضا نريد أن نغير كل شيء و في كل الاتجاهات بدون أن نبذل جهدا فكريا ناهيك عن الجهد العلمي الواعي الناضج لكننا كنا نريد أن نغير العالم و ربما آنذاك قد تواضع البعض منا و قرر أن يغير الجزائر فقط.أتصور بأنك كنت أنت و أنا من هؤلاء و أولئك‚ طبيعي جدا بعد مرور السنوات و بداية الشفاء من الجنون شعر معظمنا بالخجل من الذات و بتأنيب الضمير بالنسبة لبعض و بدأنا نفكر بمسؤولية أكبر و رصانة و ربما بوعي و منطلق في فترة الثمانينات و رغم الضبابية في الكثير من المفاهيم التي كانت في أذهان الكثير منا إلا أننا لم نستطع الاهتمام بها خاصة ما يتعلق بالثقافة تعريفا‚ آليات‚ ممارسة و غايات. لم نفعل ذلك لأننا في تلك الفترة كنا نعيش أكبر وهم عرفناه بعد الاستقلال‚ كل بدرجة بحسب السن‚ و التجربة و المستوى التعليمي إلى غير ذلك من الفرقات لكني أصر أننا كنا نعيش وهما. فلم يكن باستطاعتنا أن نركز على مسائل كالثقافة لنستوضح معناها‚ فالأولويات كانت كثيرة و استمرار الوضع على الأقل كنت ألاحظ دون وضع تصور واضح لا أقول لمفهوم الثقافة و لكن للثقافة ككل.
إن الخلطة في أذهان الناس بين عناصر كثيرة يجعل من الصعب تحديد معنى الشيء المقصود و عليه يصبح مستحيلا أن نحدد تعريفا لذلك الشيء فيكون التعامل مع ذلك الشيء خبطة عشواء.من البديهي أننا و مع مرور السنين و كثرة الأموال و الحمد لله رب العالمين‚ و استقرار الأوضاع في السنوات الأخيرة شعر البعض بضرورة ملأ الفضاءات و أنا هنا أتحدث من وجهة ثقافة فقط.
إن للثقافة و بأي تعريف كانت لا بد لها من أدوات لجعل الأمر عبارة على وظيفة اجتماعية مستمرة و من تلك الأدوات التي تخطر على بالنا مباشرة(المسرح كبناية‚قاعة السنيما‚محطة الإذاعة‚استوديوهات التلفزيون‚فرقة البالي…..) لا أريد أن أثقل عليك أيها القارئ الكريم بذكر كل هذه الأدوات كالمهرجانات و الملتقيات صحيح هذا كله غير أن حجب هذه الأدوات لطبيعة ثقافية جزائرية متميزة يصبح أمرا يحتاج لنقاش واسع.
إن مسيرة البلاد فيما فهمت و فيما أرى أننا وصلنا إليه تعرف بسرعتين اثنتين‚ سرعة خاصة بالكثير من المسؤوليين في المكاتب الفخمة و سرعة أخرى بالسواد الأعظم للمجتمع‚ هذا الأمر في معظم المجتمعات الخارجة حديثا من ليل الاحتلال و قهره‚ غير أننا و بعد زهاء نصف قرن نجد صعوبة في تبرير هاتين السرعتين . لقد قلت في مناسبات سابقة على مستوى بعض الفضاءات الثقافية سواء بهذه المدينة أو بشرق الوطن و بأكثر تركيز على مستوى العاصمة‚ أن نعث الإنسان في بلادنا من طرف بعض المسؤولين في المكاتب الفخمة بأنه مثقف لأنه يتردد على فضاءات بعينها و سحب هذه الصفة على آخرين و نزعها عنهم لأنهم لا يترددون على مقرات و فضاءات بعينها يجعلنا نشعر بأن أهم شيء قاوم الشعب الجزائري من أجله بعد تحرير الأرض كان التميز‚التميز عن الآخر أي عن المحتل الأجنبي‚ هذا لا يعني بأي حال من الأحوال الانغلاق أو رفض الأدوات الثقافية التي تعرف أساسا بأنها غريبة كالتي ذكرناها سلفا. كلا ليس هذا هو المقصود‚و لكن الاكتفاء بتلك الأدوات فقط لا يعبر عن دراية هؤلاء أصحاب المكاتب الفخمة بثقافة وطنهم و شعبهم بل أكثر من ذلك تلك الأدوات ( قاعة السنيما‚مبنى المسرح‚فرقة الباليه‚إذاعة و تلفزيون…) هي أدوات و الاهتمام بالوظيفة أكثر أهمية من التركيز على الأداة‚ هذا حديث آخر قد نعود إليه مستقبلا‚ لكن الذي يعنيني هنا أكثر فأكثر هو وصف الشعب الجزائري بأنه لا يقرأ و لا يطالع و هذا جزء أساسي من المشهد الثقافي في البلد.
لا شك أنك أيها القارئ الكريم و أنا أيضا قد رأينا أو سمعنا بأننا شعب لا يقرأ و يتردد هذا خاصة على ألسنة بعض المسؤوليين في المكاتب الفخمة و في نفس الوقت البعض على كارثة خاصة بالعلاقة بيننا وبين الكتاب. أعتقد أخطر شيء سنواجهه في أي نقاش حول هذا الموضوع سيكون خاص بتحديد تعريف المطالعة ثانيا في نوعية المطالعة.
إن المطالعة و أنا هنا أفهم و أتفهم التركيز على الكتاب الورقي بالنسبة للسواد الأعظم على أساس الحنين و التشبث بما هو تقليدي و هذا شيء طبيعي بالنسبة لكل البشر ففي كل عصر و حنين تبرز هذه المسألة و في كل مجالات الحياة‚ مدافع عن موروث يحاول أن يجعله يستمر في مقابل من يبشر بأداة جديدة و فجر جديد في ذلك المجال. إن الكتاب الورقي بالنسبة للبعض هو أكثر من ذلك‚ فهو تجارة و ربح و يد عاملة و السلسلة طويلة من التخزين إلى النقل إلى رفوف المكتبات و غيرها و علينا أن تفهم هذا‚ غير أن اختصار الموضوع في كتاب ورقي يحرمنا حقيقة من رؤية الواقع كما هو‚ فقد عرفت البشرية قبل الورق أدوات أخرى من جلد‚ عضم‚ و صخور و أشياء كثيرة أخرى كتب عليها الكثير و تعرف البشرية أيضا منذ القرن 19 نوعا آخر من أدوات المطالعة‚ تتمثل خاصة في الأسطوانات الأقراص و ما جاء بعدها إلى أن وصلنا إلى الكتب الافتراضية.
رغم تأكيد الكثير من المسؤولين أصحاب المكاتب الفخمة على أننا لا نطالع بل هناك تراجع في عدد القراء بحسب رأيهم غير أني أجد صعوبة في تبرير تزايد دور النشر في حجم الورق المستعمل في الجزائر في وجود هذه المعارض الخاصة بالكتب على مدار السنة تقريبا. في بلد يجد الباحث صعوبة في الإحصائيات الدقيقة. فان الملاحظة تصبح أقرب إلى الواقع أن حاول صاحبها أن يتحرر من الآراء المسبقة و من النظرة الاقصائية.
وجدت أن أنواع من الكتب بعينها موجودة بكثرة بل أحيانا بمبالغة في عددها لكننا و نحن نطالع أو نستمع للكثير من المسؤولين في المكاتب الفخمة نجد أنهم لا يرونها و كأن الثقافة و المطالعة بالذات هي لكتب بعينها و في الغالب لأفلام أجنبية و لموضوعات خاصة لا أدري على أي أساس أصبحت عالمية في نظر هؤلاء و المسألة هنا لا تعني مطلقا معاداة الكتاب الأجنبي بل أنا ربما من أكثر الناس تأييدا للانفتاح. غير أن قصر صفة المطالعة و جعلها مرتبطة بنوع معين من الكتب الورقية و بمرجعية معينة أي بعض الكتب الأجنبية يجعلنا نعيش خللا سوف تكون له نتائج غير طبيعية في مختلف الحقول المعرفية. لقد ذكرت أن هناك مطالعة أولا لأن الجميع يعرف ارتباط الإنسان الجزائري بالوسائل التكنولوجية الجديدة و كأنني أسمع هنا أصوات ترفض أن نجعل هذه الوسائل في مستوى الكتاب الورقي و هذا مفهوم خاصة بالأسباب التي ذكرناها سلفا‚ و أيضا هناك مطالعة لأنواع و موضوعات و مرجعية علينا أن نعترف بها‚ و لأنه و باختصار موجودة بل هي الأصل في المرجعية النفسية للمجتمع و الذهنية للإنسان الجزائري حتى لا أبالغ لأغلبية الجزائريين.الكتب التي تنعث أنها دينية‚ الكتب التي تنعث أيضا أنها نسوية أي خاصة بالمرأة و المطبخ و الأزياء‚ الكتب التي لها علاقة بالمدرسة و شبه الكتب المدرسية دون أن نتحدث عن الجرائد و المجلات التي أصبحت بأعداد تصيب البعض من الجزائريين بالحيرة من كثرتها و صعوبة الاختيار بالنسبة للمستقلين فكريا أو المبتدئين من الشباب. باستطاعة أصحاب السرعة الأولى أن يتناقشوا في كل هذه الأنواع فربما المطالعة في نظرهم لا تعني الجرائد و أشياء أخرى قد ذكرناها‚ غير أني أؤكد أن كل ما يدخل إلى ذهن الإنسان خاصة المرئي و المسموع فهو مطالعة‚ فلنحذر و نتنبه و نتواضع فان السرعة الثانية أي سرعة السواد الأعظم من الشعب الجزائري أكبر و أسرع و الهوة تزداد بين السرعتين‚ و إلى إطلالات قادمة.