منذ عام 1857، مرّت الولايات المتحدة بـ 34 حالة ركود اقتصادي، وفقاً للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية. من أبرز فترات الركود الحديثة كانت بين عامي 1981 و1982، حيث استمر الركود 16 شهراً، وشهدت خلالها البلاد ارتفاعاً في معدلات البطالة وتراجعاً في الناتج المحلي الإجمالي، مع ارتفاع التضخم إلى 11.1%. كما تعرضت البلاد لركود آخر في 1990-1991 بسبب حرب الخليج، وآخر في عام 2001 بعد هجمات 11 سبتمبر. وفي الفترة بين 2007 و2009، نشأت أزمة مالية عالمية بسبب أزمة الرهن العقاري. كما شهدت الولايات المتحدة ركوداً قصيراً في 2020 بسبب جائحة كوفيد-19.
الركود الاقتصادي هو مرحلة من التراجع الحاد في النشاط الاقتصادي، وقد مرّت الولايات المتحدة الأمريكية بعدة فترات من الركود على مدار تاريخها، مما كان له تأثير كبير على الحياة الاقتصادية والاجتماعية. تتراوح أسباب الركود من الأزمات المالية إلى الكوارث الطبيعية، ومن الحروب إلى الانكماشات في أسواق العمل. لكن أبرز الفترات التي شكلت التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة كانت خلال “الكساد الكبير”، و”الركود العظيم”، وأزمة 2020 بسبب جائحة كورونا.
1. الكساد الكبير (1929-1939)
يعتبر “الكساد الكبير” من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخ الولايات المتحدة والعالم. بدأ الكساد الكبير في عام 1929 مع انهيار سوق الأسهم في نيويورك، حيث فقدت الأسهم قيمتها بشكل غير مسبوق، مما أدى إلى انتشار الخوف بين المستثمرين. تزامن هذا مع إفلاس العديد من البنوك والمصانع، مما أسفر عن فقدان ملايين الأشخاص لوظائفهم.
تسبب الكساد الكبير في انخفاض كبير في الناتج المحلي الإجمالي، وتضاعف معدل البطالة ليصل إلى نحو 25% في الولايات المتحدة. على الرغم من المحاولات الكبيرة لتخفيف آثار الأزمة من خلال تدخل الحكومة، إلا أن التعافي الكامل استغرق سنوات عديدة. تعد هذه الفترة من أكثر الأمثلة شهرة على كيف يمكن أن يكون الركود مدمرًا للاقتصاد العالمي.
2. الركود العظيم (2007-2009)
في أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة، واجه الاقتصاد الأمريكي ركودًا عميقًا نتيجة لأزمة الرهن العقاري. بدأ الركود في ديسمبر 2007، عندما بدأ قطاع الإسكان في الولايات المتحدة في الانهيار، حيث تراجعت أسعار المنازل بشكل حاد، مما أدى إلى وقوع أزمة في سوق الرهن العقاري الثانوي. بدأت البنوك في إفلاسها نتيجة لارتفاع معدلات الديون المتعثرة، مما أدى إلى انهيار مؤسسات مالية كبرى مثل “ليمان براذرز”.
بحلول عام 2009، فقد الاقتصاد الأمريكي حوالي 8.7 مليون وظيفة، وبلغت معدلات البطالة نحو 10%. كما شهدت البورصات العالمية تراجعًا حادًا، حيث انخفض مؤشر “داو جونز” بنسبة تزيد عن 50% من قيمته. تدخلت الحكومة الفيدرالية بإجراءات تحفيزية ضخمة بقيمة تريليونات الدولارات، بما في ذلك “برنامج التحفيز الأمريكي” الذي كان يهدف إلى دعم الاقتصاد من خلال التوسع في الإنفاق الحكومي وتقديم المساعدات للقطاعات المتضررة.
3. ركود 2020 بسبب جائحة كورونا
في عام 2020، تعرض الاقتصاد الأمريكي لركود سريع وقوي بسبب جائحة كوفيد-19. عندما انتشر فيروس كورونا في العالم، فرضت الحكومة الأمريكية قيودًا صارمة على الحركة والنشاط التجاري، مما أدى إلى توقف العديد من الصناعات. شهدت الأسواق المالية تذبذبات كبيرة، وانخفضت الأسعار بشكل حاد في بداية الأزمة، بينما ارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة حيث فقد نحو 40 مليون شخص وظائفهم في الأشهر الأولى من الجائحة.
الركود الذي نتج عن كوفيد-19 كان فريدًا من نوعه، حيث كان السبب الرئيس له هو الأزمة الصحية، وليس السياسات المالية أو الأزمات المصرفية كما في الحقب السابقة. وعلى الرغم من أن الركود كان حادًا، فقد كان قصيرًا نسبيًا. فقد بدأت الحكومة الفيدرالية في تنفيذ برامج تحفيز اقتصادي ضخمة، بما في ذلك تقديم إعانات مالية للمواطنين والشركات الصغيرة، وتخفيض أسعار الفائدة.
4. الدروس المستفادة من الركود الاقتصادي
يُظهر تاريخ الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة كيف يمكن أن تؤدي الأزمات المالية إلى تدمير اقتصادي كبير، وتأثير ذلك على الأفراد والشركات. درس الكساد الكبير أمة بأسرها أن الأسواق المالية بحاجة إلى رقابة وتنظيم، خاصة فيما يتعلق بالاستثمار المفرط في الأصول مثل الأسهم والعقارات. أما الركود العظيم في عام 2007 فقد علّم الحكومة الأمريكية أن أهمية التنظيم في قطاع العقارات والبنوك أمر حاسم لتفادي الفقاعة الاقتصادية.
أما أزمة 2020، فقد أبرزت الأهمية الكبيرة للتخطيط والاستجابة السريعة من قبل الحكومات لمواجهة الأزمات الصحية التي قد تؤدي إلى أزمات اقتصادية. وبفضل الدعم الحكومي السريع، استطاع الاقتصاد الأمريكي استعادة جزء من قوته في وقت قياسي.
5. الركود في المستقبل: هل هو وشيك؟
مع التحديات الحالية التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي، من ارتفاع التضخم إلى زيادة أسعار الفائدة، يظل السؤال الأهم: هل سيواجه الاقتصاد الأمريكي ركودًا آخر في المستقبل القريب؟ يتوقع العديد من الخبراء أن الركود ليس أمرًا مستبعدًا، خاصة إذا استمرت المشاكل الاقتصادية مثل أزمة الديون أو تراجع النشاط الصناعي.
في الختام، بالرغم من أن الركود يعد مرحلة صعبة في تاريخ أي دولة، إلا أن كل أزمة اقتصادية تحمل في طياتها دروسًا قيّمة يمكن الاستفادة منها في المستقبل. قد تكون الفترة القادمة مليئة بالتحديات الاقتصادية، لكن الخبرة المكتسبة من الأزمات السابقة قد تساعد في تقليل آثار أي ركود محتمل.