في إحدى الليالي الهادئة من ربيع 1847، ولد طفل نحيل في مدينة مجرية تُدعى ماكور، ولم يكن أحد يعلم أن هذا الصغير الذي يعاني من ضعف في النظر سيُحدث لاحقًا زلزالًا في عوالم الصحافة. وُلد جوزيف بوليتزر بنظاراته الداخلية، تلك التي ترى ما لا يُرى، وتلتقط الفضائح من خلف الستائر الثقيلة.
عندما بلغ السابعة عشرة، قرر أن العالم أوسع من هنغاريا ومن قوانين القصر الإمبراطوري، فأخذ حقيبته الجلدية (التي كانت تحتوي على شطيرة متعفنة وبعض الكتب عن نابليون)، وانطلق بحثًا عن مجد عسكري. النمسا قالت له: “معذرة، أنت لا ترى جيدًا”. فرنسا تمتمت: “انظر إلى نفسك أولًا”، وبريطانيا أرسلت له كوب شاي ورفضًا مهذبًا. ثم جاء جندي أمريكي في ألمانيا، نظر إليه وقال: “أنت لا تصلح للجندية… لكن ربما تصلح للصحف”.
ويا لها من نبوءة!
تم تسجيله متطوعًا في صفوف الجيش الاتحادي الأمريكي، وهناك شارك لفترة قصيرة في الحرب الأهلية. لم يُطلق الكثير من الرصاص، لكنه أطلق فكرة: “لِم لا أقاتل بالحبر؟”.
بعد الحرب، حطّ به الرحال في سانت لويس، وهناك لم يسطع نجمه فجأة، بل عمل عاملًا بسيطًا، يُقال إنه كان يحمل الصناديق كما يحمل العناوين الجريئة لاحقًا. لكنه ما لبث أن بدأ يكتب في صحيفة ألمانية، ليس لأنه أحب الكتابة، بل لأن الورق أرخص من العلاج النفسي.
في غضون أربع سنوات فقط، أصبح مدير التحرير وصاحب الجريدة. ثم فاز بمقعد في مجلس ولاية ميسوري – لا لوسامته – بل لأنه يتحدث كأنه يكتب افتتاحية. قاد الجالية الألمانية، ساعد هوراس غريلي في حملته الانتخابية (بلا أمل يُذكر)، ثم قفز من حضن الحزب الجمهوري إلى الديمقراطي وكأن السياسة مجرد غرفة تبديل ملابس.
لكن الصحافة… آه، الصحافة! هناك بدأ يُبدع.
اشترى جريدة سانت لويس بوست-ديسباتش، ثم The New York World، وراح يحول الصحف الخاسرة إلى ممالك تُدار من بين السطور. اخترع العناوين الصادمة، وأطلق الصحافة الاستقصائية كمن يطلق تنينًا في سوق الخضار. وصفه خصومه بـ”عرّاب الصحافة الصفراء”، لكنهم نسوا أن الأصفر، في بعض الثقافات، هو لون الشمس.
وعندما اشتد عليه البصر… أي، ضعف، جلس خلف الستار. لم يكن يرى، لكنه كان يُملي، يُشرف، يُخطط، ويصحح حتى علامات الترقيم. ثم، وفي لحظة إشراق، قرر أن الصحافة لا بد أن تُعلَّم، فوهب (2 مليون دولار) لجامعة كولومبيا، لتأسيس أول كلية للصحافة.
وفي وصيته، كتب ببساطة: “امنحوا الأفضل جائزة”. وسميت الجائزة باسمه، بوليتزر، لتصبح أعظم وسام يمكن أن يُهدى لصحفي، أو روائي، أو حتى شاعر شارد في قهوة مهجورة.