لطالما كانت الثقافة في قلب هوية الشعوب، لكنها اليوم لم تعد تقتصر على البعد الرمزي أو الجمالي، بل أصبحت تُدرج ضمن مفهوم “القوى الناعمة”، أي القدرة على التأثير في العالم من خلال الإبداع والرموز والمعاني، دون الحاجة إلى أدوات القوة الصلبة كالسلاح أو الاقتصاد الكلاسيكي. في هذا الإطار، يمكن النظر إلى تجارب بعض الدول التي استطاعت تحويل ثقافتها إلى صناعة استراتيجية، على غرار اليابان وكوريا الجنوبية، اللتين نجحتا في تسويق فنونهما الشعبية والتقليدية بشكل ذكي ومدروس، فباتت المانغا والأنيمي والكي-بوب والسينما الكورية أدوات فعالة ليس فقط في تحقيق أرباح مالية ضخمة، بل أيضًا في رسم صورة مشرقة لهما على الساحة العالمية.
هذا التحول لم يكن اعتباطيًا، بل نتيجة لسياسات متكاملة جمعت بين الإرادة السياسية، والاستثمار العام والخاص، والقدرة على توجيه الإبداع المحلي نحو سوق عالمية متعطشة لمنتجات ثقافية جديدة. أمام هذه النماذج، يبرز السؤال حول ما إذا كانت الجزائر قادرة هي الأخرى على الرهان على ثقافتها كرافعة اقتصادية حقيقية، لا سيما في ظل تراثها الغني والمتنوع الذي يشمل الفنون والموسيقى والطبخ والحرف والتقاليد الشفهية والمواقع التاريخية.
من الناحية النظرية، تملك الجزائر كل المقومات التي تجعل من الثقافة مصدرًا للقوة الاقتصادية والدبلوماسية، إلا أن تفعيل هذه الإمكانيات يقتضي تجاوز النظرة الاحتفالية إلى الثقافة، والانتقال إلى مرحلة الاستثمار والتصنيع. وهنا يبرز الدور الحاسم للقطاع الخاص، الذي بإمكانه لعب دور محوري في تحويل الإبداع إلى منتج، من خلال دعم الفنون، وتمويل المشاريع الثقافية، والمساهمة في الرقمنة، وبناء البنية التحتية الضرورية من مسارح وقاعات عرض ومنصات توزيع رقمية.
كما يمكن للثقافة أن تتحول إلى أداة دبلوماسية فعالة، من خلال ما يسمى بـ”الدبلوماسية الثقافية”، أي استخدام الثقافة كوسيلة لبناء الجسور وتعزيز الحوار مع الشعوب الأخرى. في هذا الإطار، يصبح الفنان والمبدع والسفير الثقافي عناصر مكملة للدبلوماسي التقليدي، حيث يساهمون في تعزيز صورة البلد خارج حدوده، وتوسيع نفوذه بطريقة سلسة وغير مباشرة.