حوار مع د.ليلى نيقولا: الحياد في العلاقات الدولية

في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تعصف بالعالم، باتت مسألة التموقع الاستراتيجي للدول بين المحاور المتنازعة من أبرز تحديات السياسة الخارجية. وفي هذا السياق، يطفو مفهوم “الحياد” كخيار دبلوماسي حساس، يُنظر إليه أحيانًا كتقاعس، وأحيانًا أخرى كقوة ناعمة توظفها الدول للحفاظ على مصالحها وتوازناتها.

في هذا الحوار الخاص مع موقع “الصحفي”، تُضيء الأكاديمية والباحثة السياسية اللبنانية الدكتورة ليلى نيقولا على أبعاد هذا المفهوم من خلال عدسة تحليلية دقيقة، تستند فيها إلى تجربة المنطقة العربية وموقعها ضمن الاصطفافات الدولية، وتقدم قراءة معمقة لرهانات الحياد، لا كخيار انسحابي، بل كمنهج دبلوماسي يستند إلى السيادة، ويُدار بوعي استراتيجي.

للتذكير، الدكتورة ليلى نيقولا هي أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، وباحثة متخصصة في السياسات الدولية وقضايا الشرق الأوسط، معروفة بتحليلاتها الواقعية ومقاربتها المتزنة للقضايا الإقليمية.

السؤال 1: في نظرية العلاقات الدولية، يبدو أن الحياد خيار مثالي، ولكن هل يعتبر واقعًا عمليًا على أرض الواقع؟ ما هي التحديات التي تواجهها الدول التي تحاول الحفاظ على هذا الموقف وسط الأزمات العالمية؟

الدكتورة ليلى نيقولا: الحياد، في سياق العلاقات الدولية، ليس خيارًا مثاليًا طوباويًا، بل يمكن النظر إليه كأداة استراتيجية للحفاظ على الدولة ووجودها وسيادتها، وهو يتطلب توازنًا دقيقًا بين الإرادة الداخلية والقبول الخارجي.
ولكي يكون الحياد واقعيًا، لا بد أن ينبثق من إرادة داخلية موحدة تلتف حوله كخيار، ومؤسسات قوية وقوة عسكرية وازنة لتحافظ على الدولة نفسها، وأن يحظى حيادها باعتراف من الأطراف المتنازعة، لا سيما في البيئات الإقليمية التي تشهد استقطابًا حادًا.
الحياد هو خيار مناسب للدول-الحاجز في نظام إقليمي فيه استقطاب حاد، أو حيث تكون هذه الدولة محكومة بصراع دولتين أو محورين أقوى منها، وهي – بحكم الجغرافيا- دول أضعف بينهما وواقعة بينهما.
الخيارات لتلك الدولة- الحاجز محدودة، وتنحصر فيما يلي:

  1. الحياد.
  2. أن تتحول ساحة صراع بينهما.
  3. أن تكون دولة تابعة لأحد المحاور.
  4. أن يتم تقسيمها بين المحاور. وهذا ما يحصل عادةَ إذا لم تصل الحرب بينهما في تلك الدولة الى هزيمة أحدهما. وهو ما حصل للبنان بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية عام 1990، وبعد أن تحوّل لفترة طويلة الى ساحة صراع بين المحاور المتصارعة في الإقليم.

وعليه، وبحسب الخيارات المحدودة أعلاه، فإن الحياد يكون الخيار الأفضل لتلك الدولة للحفاظ على وجودها وعدم التحول الى ساحة صراع بالوكالة بين المحاور.
لكن، من أبرز التحديات التي تواجه الدول الساعية إلى الحياد:

  1. الضغوط الجيوسياسية من القوى الكبرى في الاقليم التي قد لا تتسامح مع موقف محايد إذا رأت فيه تهديدًا لمصالحها.
  2. هشاشة الداخل الوطني مما يعرض الدولة للاختراق والتشظي، خاصة إذا كانت هناك أطراف في الداخل تريد ان تنحاز الى هذا الطرف أو ذاك، أو تطمح أن تستخدم التدخل الخارجي كوسيلة لغلبة في الداخل.
  3. أن تتحول تلك الدولة نفسها مفجّر أو محفز للصراع بين المحاور (على سبيل المثال إذا كانت تحتوي على موارد طبيعية أو نفط أو غيره…)
  4. الإشكال الأخلاقي: كيف يمكن لدولة أن تلتزم الحياد في قضايا ذات طابع إنساني وأخلاقي بحت؟

السؤال 2: في ضوء الأوضاع الراهنة في فلسطين وسوريا، حيث تتداخل القوى الإقليمية والدولية، هل يمكن أن يكون الحياد خيارًا واقعيًا للدول المجاورة؟ وكيف يمكن للدول التي تتبع سياسة الحياد أن توازن بين الحفاظ على موقفها المحايد وبين دعم حقوق الشعوب في المنطقة في مواجهة العدوان والاستبداد؟

الدكتورة ليلى نيقولا: الحياد في السياقات الإقليمية المركبة مثل المشرق العربي، لا يمكن أن يُطرح كخيار عام وشامل لكل الدول.
وكما قلنا في الجواب السابق، هناك شروط موضوعية تحكم إمكانية تبنّي الحياد، من بينها موقع الدولة داخل النظام الإقليمي، قوتها النسبية، وموقعها الجغرافي بين الأطراف المتنازعة. وبالتالي، فإن الحياد يكون أكثر واقعية لتلك الدول الواقعة بين قوى إقليمية متنافسة وتفتقر إلى أدوات الحسم العسكري أو الرغبة في الاصطفاف المكلف.
غير أن هذا المنظور لا ينطبق على كل الحالات بالتساوي. فـالدول التي تقع أراضيها تحت الاحتلال، أو تواجه تهديدًا وجوديًا مباشرًا، (مثل لبنان وسوريا) لا يمكنها أن تمارس الحياد في هذا الصراع، لأن وجودها نفسه محل نزاع، لذا يبدو الحياد هنا وكأنه تنازل عن الحقوق المشروعة وعن الأرض لصالح الاحتلال. وعليه، الحياد يتطلب حداً أدنى من الاستقرار والسيادة الوطنية، وهذان العنصران ينتفيان تحت الاحتلال.
حالة فلسطين، بشكل عام، تتجاوز كونها مجرد نزاع إقليمي، فهي قضية قومية وإنسانية ترتبط بجوهر النظام الاقليمي العربي، وتشكل معيارًا أخلاقيًا لاختبار المواقف الإقليمية والدولية. لذلك، لا يمكن للدول العربية أن تكون محايدة في هذه القضية، لأن الحياد هنا لا يعني الابتعاد عن صراع خارجي، بل التخلي عن مسؤولية تاريخية وإنسانية.
وعليه، يمكن الدول العربية الأخرى (غير تلك المحتلة أرضها) أن تمارس دعمًا فاعلًا لفلسطين (دون الانخراط العسكري الذي قد لا يكون وسيلة مناسبة نظراً لعدم وجود توازن في القوى بسبب التفوق العسكري الإسرائيلي والدعم الأميركي والغربي غير المحدود لإسرائيل). وقد يكون هذا الدعم من خلال:

  1. دعم الجهود الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب،
  2. تقديم الإسناد السياسي والدبلوماسي للفلسطينيين في المنابر الأممية،
  3. دعم مبادرات المصالحة الفلسطينية–الفلسطينية،
  4. واستخدام أدوات الضغط السياسي والاقتصادي والاعلامي لتقييد المعتدي الاسرائيلي.

من المهم التأكيد أن الحياد، إذا تم تبريره في قضايا الإبادة الجماعية، مثل ما نشهده في غزة اليوم، أو في الاستيطان والاستيلاء على الأراضي واقتلاع الفلسطينيين من ارضهم، بدون اتخاذ موقف إنساني وأخلاقي واضح، لا يفقد معناه السياسي فحسب، بل يُسهِم فعليًا في تشجيع القاتل على الاستمرار في جرائمه، إذ يرى أن غياب رد الفعل الدولي يمثل ضوءًا أخضر لمزيد من الانتهاكات. وفي هذه الحالات، الحياد يصبح تواطؤًا بالصمت، لا خيارًا استراتيجيًا.

ومن هنا، فإن الحياد الفاعل لا يعني الامتناع عن اتخاذ موقف، بل يعني فصل الوسائل عن المبادئ: أي رفض الانخراط العسكري، مع الحفاظ على الالتزام الأخلاقي والقانوني بدعم القضايا العادلة، وفي مقدمتها فلسطين.

السؤال 3: كيف يمكن أن يتأثر الحياد في النزاعات المحلية بين الشعوب وحكوماتها؟ هل يمكن للحياد أن يكون ذو فائدة في هذه الحالة؟

الدكتورة ليلى نيقولا: في النزاعات الداخلية، لا يمكن استخدام مفهوم الحياد بنفس الصيغة التي يُستخدم بها في الصراعات الدولية. فحين يتعلق الأمر بعلاقة الدولة بشعبها، فإن الحياد الداخلي للدولة وترك شعبها يتقاتل لا يُعد خيارًا مشروعًا، بل يُمكن أن يتحول إلى تواطؤ بالصمت أو تقاعس عن أداء الواجب السيادي.
لكن، حين يتعلق الأمر بأطراف خارجية (دول، منظمات، فاعلون إقليميون)، فإن الحياد الفاعل يمكن أن يكون أداة مفيدة في دعم عمليات الوساطة، حماية المدنيين، وتوفير منصة للحوار دون فرض أجندات مسبقة. فالدول المحايدة يمكن أن تتحول إلى رعاة لمسارات انتقالية سلمية، أو مقدمي ضمانات دولية لاتفاقيات السلام.
لكن، حتى بالنسبة لهذه الدول، لا ينبغي أن يكون الحياد مرادفًا للانكفاء أو الحياد السلبي. ما هو مطلوب اليوم هو الحياد الإيجابي الفاعل، الذي يُعيد تعريف دور الدولة المحايدة كفاعل دبلوماسي نشط، لا كمتفرج صامت. هذا الحياد يتيح للدولة أن:
تدافع عن حقوق الشعوب ضمن الأطر القانونية والأممية،
تقود أو تستضيف مبادرات دبلوماسية متعددة الأطراف،
وتوازن بين استقلاليتها الاستراتيجية وبين التزامها الأخلاقي تجاه القانون الدولي وحقوق الإنسان.

السؤال 4: الجزائر تُعد من الدول المؤسسة لمنظمة عدم الانحياز، التي تدافع عن سياسة الحياد بين القوى العظمى. كيف ترين دور الجزائر في التأثير على مفهوم الحياد، خاصة في سياق الحروب الحالية في المنطقة؟
الدكتورة ليلى نيقولا: الجزائر تقدم نموذجًا فريدًا لما يمكن تسميته بـالحياد المبدئي الفاعل، وهو حياد لا يستند إلى الانكفاء، بل إلى الاستقلالية عن المحاور الدولية، مع الانخراط العميق في القضايا العادلة للشعوب. في السياقات الراهنة، الجزائر لا تزال تتمسك برفض الانخراط في صراعات القوى الكبرى، لكنها في الوقت نفسه تسعى إلى لعب أدوار دبلوماسية في قضايا إقليمية، وتنخرط عميقاً في دعم قضية عربية عادلة ومحقة وتصطف الى جانب المظلومين في قضية فلسطين.
ولا شكّ، تمتلك الجزائر مؤهلات قيادية لتفعيل الحياد الإيجابي، وذلك عبر:

  1. قيادة جهود الوساطة الإقليمية.
  2. تعزيز العمل الجماعي الإفريقي والعربي.
  3. الدفع نحو بناء نظام إقليمي تعددي ومستقر.

السؤال 5: الجزائر كانت ولا تزال تدافع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها في إطار منظمة عدم الانحياز، وهو موقف غالبًا ما يتناقض مع “الحياد السلبي” الذي يروج له البعض في النزاعات الدولية. كيف يمكن للحياد أن يتسق مع هذا الموقف الذي يدعم التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار؟

الدكتورة ليلى نيقولا: الحياد لا يعني التنازل عن المبادئ. الجزائر طورت مفهومًا خاصًا بها يجمع بين عدم الانحياز كاستقلال عن الاصطفاف الدولي، وبين الالتزام القيمي بتحرير الشعوب ومناهضة الاستعمار. وهذا التمازج بين الحياد والسيادة الأخلاقية هو ما يميز السياسة الخارجية الجزائرية منذ الاستقلال.
في هذا الإطار، الحياد الإيجابي الفاعل يتيح للجزائر أن:

  1. تظل خارج المحاور والصراعات الدولية.
  2. تدعم، في الوقت ذاته، قضايا حق الشعوب في تقرير المصير ضمن الشرعية الدولية.
  3. توفر منابر دبلوماسية للمقاومة السياسية والسلمية.

بهذا المعنى، لا يُعد دعم الجزائر للقضية الفلسطينية تناقضًا مع حيادها، بل تأكيدًا على أن الحياد لا يلغي الانحياز للقيم والمبادئ وحق الشعوب في تقرير مصيرها والتحرر من الاحتلال والاستعمار.

Exit mobile version