في عمق القارة الإفريقية، حيث تتقاطع الثروات الطبيعية مع ألغام النزاعات السياسية والجيواستراتيجية، تكشف التطورات الأخيرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية عن فصل جديد في المواجهة الصامتة بين الولايات المتحدة والصين. هذه المرة، ميدان المعركة ليس ماليًا فحسب، بل جيولوجيًا أيضًا، حيث تتدافع القوتان العظميان للسيطرة على المعادن الحيوية التي تشكّل عصب الصناعات المستقبلية.
وفقًا لتقرير تحليلي نشرته وكالة رويترز، فإن واشنطن دخلت على خط الأزمة الأمنية المتجددة في شرق الكونغو، حيث استغلّت الزحف السريع لجماعة M23 المسلحة، المدعومة من رواندا، باتجاه مناجم القصدير والكولتان، لتطرح مبادرة شبيهة بتلك التي أبرمتها مؤخرًا مع أوكرانيا. الهدف الظاهر هو إحلال السلام، لكن الهدف الاستراتيجي هو ضمان وصول آمن ومباشر إلى الموارد المعدنية في منطقتي شمال وجنوب كيفو.
صفقة معادن حاسمة تعيد تشكيل التوازن في قلب إفريقيا
بينما ينشغل الرأي العام بصفقة المعادن بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، يتحرك خلف الكواليس مشروع آخر أكثر أهمية على المدى الاستراتيجي، وهذه المرة في قلب القارة الإفريقية. فقد بدأت الحكومة الأمريكية مفاوضات متقدمة مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، في محاولة لإنهاء عقود من الصراع في شرق البلاد، وفتح الطريق أمام اتفاقات جديدة بشأن المعادن الحيوية.
البداية كانت في فبراير، عندما تقدمت الكونغو بمقترح شبيه بالنموذج الأوكراني إلى إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، على خلفية التقدم السريع لقوات “حركة 23 مارس” المدعومة من رواندا. ردّت واشنطن بإيجابية، لتبدأ سلسلة مفاوضات تهدف إلى حلّ النزاع الذي تعود جذوره إلى الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994.
الزخم السياسي المتصاعد يشير إلى اقتراب توقيع اتفاق سلام بين الكونغو ورواندا في أقرب الآجال، قد يكون خلال شهر مايو، على أن يُرفق بصفقات ثنائية للمعادن تشمل الدولتين والولايات المتحدة. في قلب هذه الصفقة يقع إقليم كيفو الغني بالثروات المعدنية، مثل القصدير والتنغستن والكولتان، والتي تُعد من الموارد الأساسية في الصناعات التكنولوجية العالمية.
منجم بيسي تحت الخطر
في فبراير، تمكنت حركة M23 من السيطرة على مدينتي غوما وبوكافو، أكبر مدن شرق الكونغو، ثم تقدّمت بسرعة نحو بلدة واليكيلي حيث يقع منجم بيسي للقصدير، أحد أهم مواقع التعدين الحديثة في البلاد. منجم بيسي يُعتبر نموذجاً للتعدين الأخلاقي في المنطقة، وقد مرّ بعملية تحديث شاملة ليصبح رابع أكبر منتج لمركزات القصدير في العالم.
ومع اقتراب المقاتلين من الموقع، أوقفت شركة Alphamin Resources عملياتها وأجلت العاملين، ما أدى إلى ارتفاع مفاجئ في أسعار القصدير العالمية وهدد الحكومة الكونغولية بخسارة مورد مالي حيوي. هذا التطور السريع سرّع وتيرة التفاوض بين الكونغو ورواندا والولايات المتحدة، وأدى إلى انسحاب مؤقت لمقاتلي M23 في خطوة وُصفت بـ”بادرة حسن نية” قبل انطلاق محادثات سلام برعاية قطرية.
وقد استأنف المنجم عملياته في 15 أبريل.
الذهب والدم
رغم أهمية منجم بيسي، إلا أنه يبقى المنجم الرسمي الوحيد في إقليمي كيفو. فبقية عمليات التعدين في المنطقة ما تزال تُدار بأساليب تقليدية، وغالباً في ظروف بعيدة عن الرقابة والشفافية. ووفقاً لتقارير صادرة عن منظمة IPIS، فقد تمّ رصد أكثر من 2800 موقع تعدين بين عامي 2009 و2023، يعمل فيها أكثر من 130 ألف شخص، معظمهم في استخراج الذهب أو ما يُعرف بمعادن “3T” (القصدير، التنغستن، التنتالوم).
ويُظهر التقرير أن 61% من هؤلاء العمال يتعرضون لشكل من أشكال التدخل المسلح، سواء من المجموعات المتمردة أو حتى من الجيش الكونغولي نفسه. هذه الفوضى تمثّل الأساس لما يُعرف بـ”معادن الصراع”، التي أدّت إلى سن قوانين مثل قانون دود-فرانك الأميركي عام 2010، والذي يفرض التزامات على الشركات لضمان التوريد الأخلاقي.
لكن الواقع لم يتغيّر كثيراً. فحركة M23، بحسب تقارير ميدانية، تفرض ضريبة بنسبة 15% على منتجي الكولتان في منطقة رويايا التي تسيطر عليها، ما يزيد من تعقيد سلسلة التوريد ويُهدد بتلويث السوق العالمية بالمعادن غير القانونية.
سباق السكة الحديدية
لكن ثروات الكونغو لا تقتصر على الشمال الشرقي. في الجنوب، وتحديداً في إقليم كاتانغا، تُنتج البلاد كميات ضخمة من النحاس والكوبالت، وهما من العناصر الحيوية في بطاريات السيارات الكهربائية والتكنولوجيا النظيفة. إلا أن هذه المناجم تخضع لهيمنة الشركات الصينية التي تنقل الإنتاج إلى بكين.
تحاول الدول الغربية تقويض هذا النفوذ عبر استثمارات ضخمة في مشروع ممر لوبوتو، الذي يربط ميناء أنغوليًّا بخط السكك الحديدية نحو مناجم النحاس في الكونغو. الهدف هو خلق محور نقل غربي بديل يُنعش التنمية الاقتصادية ويُقلّص الاعتماد على الطرق الشرقية المسيطر عليها من قبل الصين.
في المقابل، تستثمر بكين 1.4 مليار دولار لتحديث خط السكة بين تنزانيا وزامبيا، ما يعزز قبضتها على تدفقات المعادن نحو موانئها.
المنافسة الاستراتيجية اليوم تدور على سكك الحديد كما على المناجم، وصفقة المعادن في شمال الكونغو قد تفتح جبهة جديدة في هذا السباق الجيو-اقتصادي المحتدم.