محمد جروان…عين مبدعة ترى المعنى قبل أن ترصد الصورة

ضمن سلسلة “مهن الإعلام” التي يخصصها موقع “الصحفي” لتسليط الضوء على وجوه بارزة من قلب الممارسة الميدانية، نقترب اليوم من عدسة كانت شاهدة على نصف قرن من التحولات: من استوديوهات التحميض إلى قاعات التحرير، وصولًا إلى زمن التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. محمد جروان، أحد أقدم المصورين الصحفيين في وهران، يروي لنا مساره الحافل، حيث لم تكن الكاميرا لديه أداة مهنية فحسب، بل كانت نبضًا فنيًا يلتقط المعنى قبل الصورة.

فالكاميرا لم تكن بين يديه مجرد أداة مهنية، بل كانت عينًا مبدعة ترى المعنى قبل أن ترصد الصورة.

من شغف الطفولة إلى عدسة المحترفين

دخل محمد جروان عالم التصوير سنة 1973، وهو في سن الرابعة عشرة، وكان حينها مراهقًا يتقاضى أجرًا أسبوعيًا لا يتجاوز (40 دينارًا). في تلك الفترة، لم يكن في الجزائر سوى مركزين لتحميض الصور: أحدهما في العاصمة والآخر في وهران. كانت الصورة تنتظر شهراً كاملًا لتُسلَّم لأصحابها. وقد استغل محمد تلك التجربة لصقل مهاراته، حيث تعلم أسرار المهنة من خلال الاحتكاك المباشر مع مهندسي شركة AGFA الألمانية، الذين كانوا يقدمون ورشات تدريبية داخل مركز التحميض الخاص. لاحقًا، قرر محمد افتتاح أستوديو خاص به، رفقة أحد أصدقائه.

خطوات نحو التصوير الصحفي

المصور الصحفي محمد جروان برفقة عميد المصورين الصحفيين في وهران الراحل الحج بوطيبة.

مع تطور تجربته المهنية، التحق جروان سنة 1998بجريدة “الرأي”، ومنها بدأ مساره في ميدان التصوير الصحفي. تنقل بين عدة عناوين معروفة مثل: “صوت الغرب”، “الأجواء”، “المسار العربي”، “الخبر الرياضي”، “البلاغ”، و”كارفور”. في كل محطة، كان يحمل الكاميرا كأنها جزء من جسده، ويلاحق اللحظة أينما كانت.

حين أنقذت إحدى صور جروان وهران

في إحدى الحوادث الاحتجاجية بوهران، عقب وفاة تلميذة، كادت الأمور تنفلت بعد توجيه اتهامات للشرطة باستخدام العنف. لكن صورة التقطها جروان أثبتت عكس ذلك، إذ أظهرت العناصر الأمنية في وضع سلمي، وساهمت في تهدئة الوضع. حادثة أكدت له من جديد قوة الصورة في تصحيح الروايات الرسمية.

تحوّلات المهنة بين الأمس واليوم

سمحت له تجربته الطويلة بمواكبة التحول الجذري في مهنة التصوير، من الكاميرات الفيلمية (Analogique) إلى تقنيات التصوير الرقمي الحديثة، ثم إلى زمن الذكاء الاصطناعي الذي بات يُنتج صورًا بلا مصور. يرى جروان أن التصوير الصحفي فن راقٍ، والمصور الحقيقي هو فنان يرى ما لا يُرى، ويجيد التموقع في الزمان والمكان، خاصة خلال التغطية الميدانية للأحداث الهامة.

“الصورة… التزام ومسؤولية”

يقترح جروان فكرة توطين الصورة الجزائرية من خلال إنشاء “بنك صور وطني” يكون مرجعًا إعلاميًا ومؤسساتيًا. كما يطالب بتعزيز التكوين المتخصص. ويؤكد أن المصور لا ينبغي أن يكون مجرد “ضاغط زر”، بل صحفيًا يُحلل ويتوقع ويقرأ المشهد، لأن الصورة الحقيقية لا تأتي بالصدفة، بل بالفهم والانخراط.

محمد جروان، الذي لا يزال يحمل الكاميرا كما يحمل الحلم، يؤمن بأن المصور لا يلتقط اللحظة فقط، بل يكتب التاريخ بعدسته. فالصورة عنده ليست مجرد شهادة، بل مقاومة بصرية وذاكرة وطنية لا تموت.

Exit mobile version