شايلا بشير.. مصمم يغزل من التراث خيوط هوية جزائرية أصيلة

في أمسية فنية استثنائية، فتح شايلة بشير أبواب بيته أمام فريق “الصحفي”، فكان الدخول إلى منزله كأنه ولوج إلى مغارة علي بابا، حيث تتلألأ كنوز التراث بلا عدد. بين جدران تفوح منها رائحة الحايك وألوان الجابادور الزاهية، خضنا رحلة عبر أروقة الزمن، حيث ينسج الحايك سرد الجدّات وتعزف البلوزة لحن الأناقة الخالدة. هناك، وقف شايلة بشير، حافظًا لذاكرة المدينة وسفيرًا لروح الجزائر، فبزغ في ذلك اللقاء حوار يفيض سحرًا ودفئًا.

إن الحوار مع شايلة بشير أشبه برحلة إلى أعماق التراث العتيق، من نغمات الشعر إلى نكهات الحريرة، رجل جمع بين الماضي والحاضر بخيط وإبرة، وبقصيدة ونكهة، ليحكي قصة مدينة بألوانها وأسرارها. هو فنان متجدّد لكنه محافظ، يبدع دون أن يخون تراثه، ويُعطي أكثر مما يأخذ. وُلد في وهران عام 1960، بدأ مسيرته منذ الصغر في الخياطة والطبخ، ثم امتد نشاطه إلى التصميم والترميم، حتى صار من أبرز المبدعين في اللباس التقليدي الجزائري، لا سيما الوهراني، محافظًا على الإرث ومؤسسًا لجمعية الحرفيين، ومُكوّنًا لأجيال من الشباب، وسفيرًا للطبخ واللباس الجزائري في مهرجانات محلية وعالمية. شاعر وكاتب، يملك أرشيفًا غنيًا من القطع التراثية، ويعمل حاليًا على إصدار موسوعة عن التراث الوهراني. ظل شايلة بشير مخلصًا لهويته، مؤمنًا بأن الإبداع الحقيقي هو الذي يحفظ جوهر التقاليد.

تصميم اللباس التقليدي عند شايلة: أكثر من مجرد زينة

يقول شايلة بشير، وابتسامة تملأ وجهه:
“كانت بدايتي مع تصميم الأزياء غريبة بعض الشيء، لكنها ملهمة. كنت معجبًا بمغنٍ فرنسي وأراسله عبر البريد، إلى أن قررت أن أهديه شيئًا من إبداعي. صممت أول قطعة لباس مستوحاة من ثوب والدي العملي، أضفت لها أكمامًا ونسجت خيط ‘الناقوس’ في بيتنا بمساعدة شقيقاتي. في عام 1981، أرسلت الثوب إلى المغني، ومن هناك بدأت رحلتي الحقيقية في عالم التصميم، متحديًا غياب العروض التي تهتم بأناقة الرجل الجزائري. ومنذ تلك اللحظة، صار كل ما أبدعه امتدادًا لصوت التراث وروح الابتكار.”

يشير شايلة إلى أن اللباس التقليدي ليس مجرد زينة فلكلورية، بل مرآة تعكس هوية الأقاليم وعمق تاريخها. فالجزائر تزخر بأزياء متنوعة، من “الكاراكو” العاصمي إلى “القندورة” العنابية، مرورًا بـ”القسنطينية” وسحر البلوزة الوهرانية.

وتلك القطع، رغم ظاهرها البسيط، هي قطع فنية لا تُقدّر بثمن، تتطلب فهمًا دقيقًا للحرفة قبل كل ابتكار. خذوا “البلوزة الوهرانية” مثالًا: تُشدّ بحزام مرن أمام الأخوات والصديقات ليُبرز جمال القصة، أما في حضرة “شيخها” – والد الزوج – فتُرتدى دون حزام، ومطرزة بالـ”بينوار السطايفي” احترامًا للتقاليد، متجليةً فلسفة الاحتشام المتأصلة في التصميم الأصلي.

وهنا يكمن التحدي الحقيقي: فالإبداع في خدمة التراث سلاح ذو حدين، إذ إذا انطلق من علمٍ ومعرفة ينتج أصالة، أما إذا بُني على جشع تجاري أو جهل، فإنه يهدم روح القطعة ويشوّه جوهرها. لذا، يبقى الملتزمون بالحرفة القلائل الذين يدركون أن الحفاظ على القديم لا يقل أهمية عن رسم معالم المستقبل.

خصوصيات اللباس التقليدي

يقول شايلة بشير بصوت هادئ وخبرة مشعة:
“في بيتنا الوهراني، لكل لباس حكايته، وأحيانًا تفاصيله تُحدّد الطبقات وأسلوب الحياة. كانت ‘المرمّة’ ونصف ‘المرمّة’ حكراً على نساء العائلات الثرية، يفخرن بطرزها الفاخر. أما متوسطات الحال، فكن يكتفين بـ’الكسا’، والنساء اللواتي لم تتح لهن فرصة اقتناء المرمّة كن يلبسن ‘الموس’ أو ‘المبرد’ أو ‘السبيكة’، ويغمرنها ليلاً بزهور الزعفران حتى تكتسب لونًا أصفر يقترب من المرمّة الحقيقية.

والمسنّات فوق السبعين أو الثمانين، يزلن في الأناقة، يرتدين ‘المقرون’، قطعة الرداء التي يُخاط وسطها وتضاف إليها ‘النيلة’ فتُضفي لونًا أزرقًا عميقًا. وعلماً أن القفة ليست من مكونات المرمّة الوهرانية، بل كانت تُضاف إلى ‘الكسا’ فقط. وحتى القفاز، فإن رجال وهران يرتدونها في اليد اليسرى فقط، كرمز للأناقة والذوق الرفيع.”

بهذه التفاصيل الدقيقة، يؤكد شايلة بشير أن كل غرزة وكل لون يحكي قصة فئة من المجتمع الجزائري وتراثها العريق.

سفيرًا للباس التقليدي في الخارج

يقول شايلة بشير بلهجته الوهرانية الأصيلة وحماسة الفنان المسافر:
“شاركت في عدة عروض ومهرجانات خارج الجزائر، من إسبانيا إلى فرنسا مرورًا بتونس. في إسبانيا، لم أكتفِ بعرض اللباس التقليدي فحسب، بل قدمت أيضًا أطباقنا الأصيلة، ولا أنسى دهشة السياح الأمريكيين واليابانيين وهم يتذوقون طعم ‘الحريرة الوهرانية’ و’الرقاق’ لأول مرة. وفي فرنسا، حملت ثوبي التقليدي إلى شوارع باريس وأزقتها، فكنت كجسر بين ثقافتين، ورأيت التفاعل يزداد كثافة في كل ركن. هذه التجارب علّمتني أن التراث الجزائري قادر على السفر عبر الحواس أولًا، ثم بالعقل والقلب.”

حكاية “الصباط العربي” وفستان “الباهية”: إبداعات في عالم الموضة

يحكي بشير قصة “الصباط العربي” وفستان “الباهية” اللذين صممهما بلمسة عصرية تجمع بين الأصالة والحداثة، مشيرًا إلى أنه كان أول من قدم تصميم “الصباط العربي” بشكل حديث، أما فستان “الباهية” فصممه عام 1997 وهو مسجل باسمه في ديوان حقوق المؤلف، مما يمثل فخرًا في مسيرته الفنية.

يمتلك شايلة أكثر من 103 قطع من الحايك، لكل منها حكاية تروي تراثًا أصيلاً، وقد أهدى إحدى هذه القطع إلى متحف وهران، كرمز للتراث الذي يحرص على الحفاظ عليه. كما يملك 24 زربية حائط منسوجة بنفَس تقليدي خالص.

أعزّ قطعة إلى قلبه هي “الجبادور الجزائري”، لباس تقليدي يمثل هويته وأصالته، فاللباس التقليدي بالنسبة له ليس مجرد ثوب، بل جزء من كيانه وذاتيته. ويؤكد أن كل ما قدمه كان خدمة لتقاليد وأصالة بلده الحبيب.

مشروع العمر: موسوعة التراث الوهراني

يقول شايلة بشير، وهو يضيّق بأنامله على طيات ذاكرة وهران:
“أنا اليوم منشغل بأهم مشروع في مسيرتي، مشروع العمر كما أحب أن أسميه: موسوعة من خمسة أجزاء، ستكون مرجعًا حيًّا للثقافة والتراث الوهراني. ليست مجرد صفحات، بل أرشيفٌ للحكايات والرموز والتفاصيل المنسية.”

ثم يوضح:
“الجزء الأول خصصته للحايك، ليس كقطعة قماش فقط، بل كحكاية أنوثة وستر وهوية.
أما الجزء الثاني فيحملني إلى البلوزة الوهرانية، بكل طبقاتها الجمالية والرمزية، من “المرمّة” إلى “السبايك”.
الجزء الثالث مكرّس للعرس الوهراني، طقوسه، أهازيجه، وطقاطيقه التي لا تزال ترنّ في الذاكرة.
أما الجزء الرابع، فهو عن حمّام العروسة، ذاك الفضاء الطقوسي الذي لا تكتمل الأعراس بدونه.
ويختم الجزء الخامس بـ الختان، كمرحلة مفصلية في حياة الطفل، وما يرافقها من طقوس وأهازيج وأزياء تقليدية.”

ويضيف بشغف: “أريد أن أترك مرجعًا للأجيال القادمة، شيئًا يبقى بعدي… لأن التراث إذا لم يُكتب، يُنسى.”

من الموضة والطبخ إلى الشعر: رحلة في عوالم الإبداع المتنوعة

تتسع مسيرة شايلة بشير لتشمل الطبخ والكتابة والشعر، حيث بدأ تجربته في دار الثقافة مع الدكتور أمين الزاوي، ولا يزال يشارك في التظاهرات الثقافية والفنية، ويشتهر بصفته “شاف” في فن الطبخ والحلويات، وسفيرًا للباس التقليدي الجزائري.

وفي عالم الكلمة، كتب قصائد تعبر عن عشق لوهران والجزائر والصداقة والفن، من أبرزها: “يا جزائر يا بلادي”، و”قصيدة تأبينية” في وداع الفنانة الراحلة صوريا كينان.

أسس عام 1994 الجمعية الوطنية للحرفيين الخياطين الجزائريين، التي تحولت لاحقًا إلى جمعية محلية تحت اسم “دنيا الموضة والمحافظة على الفن الثقافي الجزائري”، وأخرج من ورشاتها عشرات الشباب الذين أصبحوا اليوم وجوها معروفة في عالم الموضة بوهران.

نصيحته للشباب واضحة: “حبّوا المهنة أولًا، ثم ابتكروا مع الحفاظ على روح التراث”. ويؤكد أن عرض اللباس التقليدي في الخارج خطوة مهمة، لكنها غير كافية إن لم تُسبق بتكريس حقيقي للتراث داخل الجزائر.

ويختتم بدعوته قائلاً:
“لدينا فضاءات مهجورة كثيرة في وهران وباقي المدن تستحق أن تتحول إلى معاقل للحفاظ على تراثنا، ولتكون منابر لعرض إبداعاتنا. علينا أن نخلق جسورًا بين الأجيال، نعلم الشباب أن التراث هو هويتنا الحقيقية، لا نكتفي فقط بالاحتفاء به في المناسبات، بل نجعله حياة يومية تنبض في تفاصيلنا.”

شايلة بشير يؤمن أن التحديات كثيرة، من ضعف الدعم الرسمي إلى غياب المؤسسات الحقيقية التي تهتم بالحرفة، لكنه يرى في العزيمة والحب القوي للتراث قوة قادرة على تجاوز الصعاب. ويضيف بابتسامة دافئة:
“لا شيء أجمل من أن ترى زبونًا يرتدي من تصميمك، يعرف قيمة القطعة التي يحملها، ويتباهى بأصالته أينما حلّ. هذا هو النجاح الحقيقي، أن نزرع في قلوب الناس اعتزازًا بجذورهم.”

في نهاية اللقاء، يغادر فريق “الصحفي” بيت شايلة بشير وهو محمّل بكنوز من المعرفة، قصص من الزمن الجميل، وأمل في أن يبقى التراث حيًّا نابضًا عبر الأجيال، كما كان شايلة بشير دائمًا رمزًا للإبداع والوفاء لأرضه.

Exit mobile version