في الرابع والعشرين من ماي، تتجه أنظار العالم إلى مدينة كان الفرنسية، حيث تُسلَّم السعفة الذهبية، أرفع جوائز المهرجان السينمائي الأشهر. وفي خضم هذا الاحتفاء العالمي، يخيم على المشهد غيابٌ ثقيل لفنانٍ عربيٍ كبير، رحل أمس بصمت، لكنه ترك أثرًا لا يُنسى: المخرج الجزائري محمد الأخضر حمينة، العربي الوحيد الذي نال هذه الجائزة الرفيعة قبل خمسين عامًا عن رائعته “وقائع سنين الجمر”.
ورغم استمرار حضور السينما العربية في كبرى التظاهرات العالمية، إلا أن هذا الحضور غالبًا ما يبقى في خانة المشاركة دون تتويج. ففي ظل طموحات فردية تصطدم بتحديات إنتاجية معقدة، وهيمنة التمويل الأجنبي وتراجع الهوية البصرية المحلية، يظل السؤال مطروحًا: لماذا لم تعد الأفلام العربية قادرة على ملامسة الذهب؟
في السنوات الأخيرة، عرفت السينما العربية تجارب لافتة حظيت باهتمام دولي، مثل فيلم “غزة مونامور” للأخوين ناصر، الذي قُدم في مهرجان البندقية ولاقي إشادة واسعة، وكذلك الفيلم التونسي “بنات ألفة” للمخرجة كوثر بن هنية، الذي نافس في “كان” العام الماضي وأثار جدلًا بشأن الشكل الهجين بين الوثائقي والدرامي. ورغم هذه النجاحات، فإنها تبقى استثناءات لا تُخفي القاعدة: حضور لافت، لكن دون تتويج كبير منذ تتويج حمينة عام 1975.
أكثر من ذلك، طفت في بعض الدورات الأخيرة لمهرجانات عربية مثل قرطاج نقاشات حادة حول الأعمال المشاركة، إذ وُجّهت انتقادات لأفلام لا تعكس واقع المجتمعات العربية بقدر ما تُفصّل سردياتها وفق ما يروق للجان التحكيم الغربية. وهو ما يُعيد طرح السؤال حول الحدود الفاصلة بين الأصالة والتموقع في السوق الدولي.
تعتمد السينما العربية، أكثر من أي وقت مضى، على المهرجانات الدولية لترويج أعمالها. وفي ظل غياب سوق عربية فعالة تُوفّر قنوات توزيع داخلية، باتت المهرجانات الوسيلة الأساسية لتحقيق الاعتراف النقدي، وربما التمويل المستقبلي.
لكن وراء هذا الحضور، تكمن معضلة الإنتاج. إذ يُصنع معظم هذه الأفلام بتمويل أجنبي، ما يثير الجدل حول مدى انتمائها للهوية العربية. فهل يكفي أن يتحدث الفيلم العربية ليُعد عربيًا؟ أم أن الأمر يتطلب رؤية إنتاجية مستقلة تعبّر عن الذات العربية؟
الأفلام العربية المعروضة هذا العام في “كان” تكشف مشهدًا متنوعًا في الشكل، لكنه متباين في العمق. أعمال مثل “كعكة الرئيس” و “نسور الجمهورية” تتناول مواضيع سياسية، بينما يغوص فيلم “عائشة لا تستطيع الطيران بعيدًا” في قضايا اجتماعية صامتة. أما “سماء بلا أرض” فهو فيلم ناعم في لغته البصرية، لكنه مشغول بالكامل بتمويل خارجي وشخصيات غير عربية. كذلك يطرح فيلم “أرض الصيف” لمخرج مصري شاب ثنائية العلاقة بين الذاكرة والمنفى، لكنه يُقدم من زاوية تبدو مصمَّمة لذوق المهرجانات الأوروبية.
هنا يظهر التفاوت الواضح بين النوايا الفنية والنتائج الدرامية، ما يثير تساؤلًا مؤلمًا: هل تحوّل المهرجان من فضاء لعرض الأفكار إلى غاية بحد ذاتها، تُصاغ وفق شروط السوق والتمويل؟
كثير من هذه الأفلام تبدو وكأنها صُنعت خصيصًا للعرض في المهرجانات، لا لتقول شيئًا حقيقيًا. بين ما يُراد قوله وما يظهر على الشاشة، تاهت الأفكار، وتقدمت الأضواء على الأصوات. وهذا يكشف أزمة أعمق: انفصال الإبداع عن المعنى، والانشغال بالشكل على حساب الجوهر.
الأمر لا يتعلق فقط بمعضلة الإنتاج، بل بأزمة هوية حقيقية. فهل ما يُقدَّم اليوم يُعبّر فعلًا عن همّ سينمائي عربي؟ أم أنه مجرد تذكرة عبور نحو المنصات الدولية؟
اللافت أن هذه الدورة تتزامن مع مرور نصف قرن على تتويج “وقائع سنين الجمر” بالسعفة الذهبية، وهو يُعرض اليوم بنسخة مرممة، في لحظة وداع لمخرجٍ صنع مجده بتوقيع عربي خالص، في زمن لم يكن التمويل شرطًا لصنع التحفة.
اليوم، يغيب محمد الأخضر حمينة. لكن تغيب معه – وربما قبله – مدرسة سينمائية عربية كانت تعرف ماذا تريد، وإلى أين تتجه. مدرسة لم تكن تسعى إلى الجوائز، بل كانت تصنعها.