يُعدّ الفنان عبد الجليل ماهر أحد الأسماء الصاعدة في مجال التصميم الرقمي و الهوية البصرية، حيث يمزج بين الحس الجمالي والرموز الثقافية بأسلوب معاصر، يعكس انشغالات الجيل الجديد الباحث عن هوية بصرية متجددة. في هذا الحوار مع “الصحفي”، يتحدث ماهر عن مسيرته، وتحديات المجال الرقمي، وسعيه لإيجاد لغة تصميمية تعبّر عنه وعن رؤيته الفنية.
عبد الجليل ماهر فنان مصري شاب وُلد في قلب القاهرة عام 1992، يمتلك موهبة تجعل المرء تشعر بلمسة عصرية راقية، رغم اعتماده على أدوات تقليدية مثل الخط العربي. درس تخصص مكتبات وتكنولوجيا التعليم، لكنه قرر تغيير مساره تمامًا والتفرغ للفن الرقمي والتصميم الغرافيكي. بدأ مشواره عام 2014، ومنذ ذلك الحين وهو يرسم الحروف والكلمات كأنها تعزف سيمفونية بصرية تعبّر عن الهوية والقضايا الإنسانية والتاريخ.
ماهر لا يقتصر في عمله على تصميم الحروف فحسب، بل يخلق حالة فنية تجمع بين التراث والحداثة، وبين الخط العربي الأصيل وروح الجيل الجديد الذي يبحث عن ذاته في عالم رقمي معقد. أعماله ليست مجرد زخارف، بل رسائل تحمل نبض الشباب، آلامهم، أفراحهم، وتطلعاتهم.
الصحفي: هل يمكن أن تقدم لنا الفنان عبد الجليل ماهر للجمهور الجزائري؟
عبد الجليل ماهر : أنا عبد الجليل ماهر عبد العزيز، فنان مصري من مواليد القاهرة عام 1992. درست في جامعة الأزهر وحصلت على بكالوريوس في التربية – قسم مكتبات وتكنولوجيا التعليم. بدأت رحلتي مع الفن والتصميم الغرافيكي عام 2014، قبل تخرّجي بسنة، ومنذ ذلك الحين بدأت أكتشف شغفي الحقيقي. كنت من طفولتي أحب الكتابة والرسم، وكان خطي مميزاً، ولكن لم يكن لدي توجيه كافٍ لتنمية الموهبة. مع مرور الوقت، بدأت أتعلم بنفسي، وجذبني الخط العربي والمخطوطات والفن التشكيلي، فبدأت أجرب أفكاراً بسيطة، وكان الله يلهمني ويفتح لي الطريق. في عام 2015، بدأت أعمل على تصميمات تعبّر عن أحداث جارية، خصوصاً القضية الفلسطينية وسوريا، وكذلك شخصيات إسلامية وتاريخية مثل صلاح الدين والصحابة. وفي عام 2016، تواصلت معي شركة ملابس استخدمت أعمالي في تصميمات تتناول فلسطين والهوية الإسلامية، مما ساعد على انتشار أعمالي بين الشباب. ومنذ ذلك الوقت، بدأ الطلب يتزايد على تصميم شخصيات عربية معروفة مثل السلطان قابوس، وتوسع أسلوبي ليشمل الشعارات والأعمال الفنية داخل مصر وخارجها. يعتمد أسلوبي على دمج الخط العربي مع الفن الرقمي، والهدف دائماً أن يوصل الفن رسالة تعبر عن الإنسان والقضية والهوية. وقتي كله مكرّس للفن، وأعيش أغلب الأحيان وسط أفكار، والوحدة معه هي الشيء الوحيد الذي يفهمني ويتجاوب معي دون معاناة. الفن يتطلب الصدق وسلامة النفس والروح ليهبك هبة روحية من الله لا يملكها الإنسان، ولذلك يجب على الفنان أن يخلص للفن ويعشق كل ما هو جميل داخله، وإذا تعطل شيء أو بهتت الروح فلا تقدم. الحفاظ على الروح والصدق هو سر استمرار الإبداع ووصوله إلى القلب.
الصحفي: من هم أكثر الفنّانين العرب أو الغربيين الذين تأثرت بهم في مسيرتك الفنية؟
عبد الجليل ماهر : بصراحة، لا أعتبر أن هناك فناناً بعينه كان له التأثير الأكبر عليّ، لأنني أتأثر بكل ما حولي. الخط العربي ليس المصدر الوحيد لإلهامي، بل التأثير الحقيقي والأقوى نابع من تجربتي الشخصية وتكويني الإنساني منذ الطفولة وحتى اليوم. عائلتي وطبيعتي الشخصية والظروف التي مررت بها شكلت رؤيتي للعالم، وشوّهت أو طهرت مشاعري، ثم صاغت منها فنّاً. أتأثر بالطبيعة كثيراً؛ أراها رسالة من الخالق، مليئة بالتفاصيل والمعانِي التي تلهمني. كذلك المشاهد الإنسانية كالألم والصمود والفقد والفرح تدخل قلبي وتتحول إلى حالة فنية. الفن بالنسبة لي هو منفذي الوحيد لحريتي وأفكاري، أشعر أنه منقذ ذاتي ووسيلتي الوحيدة للتعبير والتنفس وإثبات الوجود. لذلك لا أتعامل مع الفن كزخرفة أو مهارة فحسب، بل كرسالة وحالة داخلية تتجسد عبر الحرف والتكوين.
الصحفي: ما هي أكثر قطعة فنية صممتها وكان لها أثر خاص في نفسك؟ وما القصة التي تقف خلفها؟
عبد الجليل ماهر : معظم أعمالي الفنية أنفذها بدافع من الصدق والشغف الداخلي والتعاطف العميق مع كل شخصية أو مشهد أعمل عليه. قبل التنفيذ، أعيش حالة ذهنية وبصرية كاملة، كأنني أشاهد مشهداً حقيقياً يلهمني بكل تفاصيل العمل: فكرته وتكوينه وإحساسي بالحرف نفسه. هذا المشهد يدفعني بكل طاقتي نحو التنفيذ، ولا أشعر بالملل مهما طال الوقت طالما كنت مؤمناً بقيمة المعنى وأهمية إيصال التجربة الإنسانية والشعورية كاملة. وأعتبر نفسي قبل كل تنفيذ “جاهلاً” لأنني أبدأ من الصفر وأتعلم من كل تجربة جديدة. أتعلم من قوة الشخصية أحياناً، ومن ضعفها أحياناً أخرى، أتعلم معاني الشجاعة والصبر وقول الحق في وقت صعب، هذه المعاني تعلمني قبل أن أعلّم بها غيري. أقرب الأعمال إلى قلبي هو مشروع “أصحاب النبي”، وتحديداً تصميم شخصية سيدنا سعد بن أبي وقاص. هذا العمل شكّل نقطة تحول كبيرة في مسيرتي، وكان البداية الحقيقية لتحديد طريقي الفني. صممته لأول مرة عام 2017، ثم أعدت تطويره بشكل جذري عام 2019، وكان سبباً في انتشار واسع للعمل والمشروع ككل عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
الصحفي: هل يمكن أن تعرفنا بفكرة “المتحف الفلسطيني”؟ وما الدور الرمزي الذي يلعبه في مقاومة محو الذاكرة الجماعية؟ وهل تعتقد أن الفن يمكن أن يكون أرشيفًا بديلًا للذاكرة؟
عبد الجليل ماهر : “المتحف الفلسطيني: أجساد تنطق” هو مشروع فني أشبه بأرشيف يوثق صمود الشعب الفلسطيني عبر الخط العربي التعبيري والفن التشكيلي. لم أخطط لهذا الاسم منذ البداية، لكن بعد إنجاز عشرين عملاً، شعرت أني أمام متحف حي يحفظ قصص وتجارب إنسانية عميقة. الاسم جاءني بعد أن عشت كل حالة إنسانية وأثرها فيّ بصدق.
المتاحف تحفظ ما له قيمة تاريخية وإنسانية، وأنا أرى أن الشخصيات الفلسطينية التي ضحّت وصمدت تستحق أن تُخلَّد مثل أي أثر نفيس. هؤلاء هم الذاكرة الحقيقية لقضيتنا، وعلينا أن نخلّد مواقفهم وشجاعتهم للأجيال القادمة.
في هذا المشروع، أروي تجاربهم من خلال الحرف العربي، ليس كعنصر بصري فقط، بل كل حرف ينبض ويتكلم نيابة عنهم، يصبح صوتهم حين يخفت صوتهم، وبديلًا يعبر عن مشاعرهم المكبوتة وألمهم وصمودهم. الحرف هنا ليس زخرفة، بل لسان حال من لم يُسمح له بالكلام، ووسيلة لحفظ الذاكرة الحيّة.
حين أنهيت المشروع، تخيلت هذه الأعمال متجمعة في متحف واحد، يزوره الناس فيتقابلون مع وجوه حقيقية وذكريات ناطقة وقصص صمود لا يجب أن تُنسى.
الصحفي: هل تعتقد أن هناك حاجة إلى تحديث قواعد الخط العربي التقليدي لتناسب متطلبات التصميم المعاصر، أم أن الحل يكمن في الإبداع داخل هذه القواعد؟
عبد الجليل ماهر : لست خطاطاً كلاسيكياً، لكنني أؤمن أن هناك أساتذة كباراً على مستوى الوطن العربي والعالم استطاعوا تطوير الخط العربي بعمق، دون التخلي عن أصوله. هؤلاء المبدعون، مثل الأستاذ وسام شوكت، قدموا إضافات حقيقية ونجحوا في الخروج من القواعد التقليدية نحو أساليب أكثر حرية وابتكاراً، دون أن يفقد الخط روحه أو هويته. أما على المستوى الشخصي، فأنا لا أعتبر نفسي مناسباً لوضع قواعد جديدة للخط العربي. أنا فنان تلقائي، يدفعني الشغف والحرية والأفكار التي أعبر عنها عبر الحرف. الخط بالنسبة لي وسيلة لخدمة الفكرة، وليس العكس. لذا أركز في أعمالي على خلق حالة فنية متكاملة تنبع من إحساس داخلي، وليس من التزام صارم بالقواعد التقليدية.
الصحفي: برأيك، كيف يمكن للهوية البصرية العربية أن تتطور لتواكب الاتجاهات العالمية في التصميم مع الحفاظ على خصوصيتها الثقافية؟
عبد الجليل ماهر : أعتقد أن البداية الحقيقية لتطور الهوية البصرية العربية تكون من خلال الاهتمام بالمواهب المتميزة ودعمها وتسليط الضوء عليها. من المهم منح هؤلاء الفنانين المساحة الكافية ليقدموا رؤى جديدة لهويتنا العربية، مبنية على تاريخها العريق وثقافتها الغنية، ولكن بروح معاصرة قادرة على مخاطبة العالم. حين تُوضع هذه الطاقات في مكانها الصحيح، سيحدث انتعاش حقيقي في المشهد البصري العربي، وسنرى هويتنا تُقدم للعالم بشكل قوي وواثق. وأنا أؤمن أن كثيراً من الفنون العالمية اليوم تعود جذورها إلى الفنون العربية، بقواعدها وأصولها وروحها، لأننا كعرب جزء من أصل الحضارات الإنسانية، ولنا بصمتنا الراسخة في تاريخ الفن.
الصحفي: كيف ترى واقع الخط العربي الرقمي اليوم في العالم العربي؟ هل هناك حركة حقيقية لتجديده أم ما يزال محصوراً في النطاق التراثي؟
عبد الجليل ماهر : من خلال تجربتي الشخصية، أرى أن واقع الخط العربي الرقمي شهد تحوّلاً ملحوظاً، خصوصاً بعد حركة الثورات العربية. بدأت العقول والأفكار تتحرر، وظهر تحرر واضح في طرق التعبير، ومن بينها الخط العربي. أتذكر جيداً ما حدث بعد ثورة 25 جانفي، حيث بدأنا نرى انتشاراً واسعاً للتيشيرتات التي تحمل عبارات بالخط العربي، وكانت مليئة برسائل قوية ومعبرة. كان شباب كثير من فناني الخط الكاليغرافي يبدعون أعمالاً بالخط العربي بعيداً عن الطابع الكلاسيكي، ويطبعونها على الملابس وغيرها، ما جعل هذه الأعمال تلامس جيل الشباب وتؤثر فيه بشكل مباشر. في ذلك الوقت، كنت أتابع هذه الحركة قبل دخولي المجال بشكل رسمي. ومع دخولي عالم التصميم الجرافيكي عام 2014، ثم تخصصي في فن الخط العربي بعد سنة، بدأت أقدّم تجاربي الخاصة عبر أفكار نابعة مني، منها مشروع “أصحاب النبي” وآخر عن فلسطين، وتم توظيف هذه الأعمال على التيشيرتات وانتشرت بشكل واسع بين الشباب. أنا مؤمن أن هذه الفترة أطلقت روحاً جديدة في الفن العربي وفتحت الباب أمام أفكار مختلفة وغير تقليدية. وأعتقد أن الإبداع الحقيقي لا يولد إلا إذا مُنح الفرد الحرية الكاملة للتعبير عن ذاته.