هل تُعيد الصحافة اختراع نفسها ؟ من جيل Z إلى الذكاء الاصطناعي

من أين جاءت تسميات مثل “جيل X” أو “جيل Z”؟ ولماذا يُختزل جيل كامل في حرف واحد؟ منذ منتصف القرن العشرين، بدأت الأبحاث السوسيولوجية، خصوصًا في الولايات المتحدة، بتصنيف الأجيال بناءً على تجاربها التقنية والاجتماعية الكبرى. البداية كانت مع “الجيل الصامت”، ثم “جيل الطفرة السكانية”، وصولًا إلى “جيل X” في السبعينيات، تلاه “جيل Y” أو “الميلينيالز”، وأخيرًا “جيل Z”، الذي يشير إلى مواليد ما بعد منتصف التسعينيات وحتى مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة.

يطلق على هذا الجيل أحيانًا اسم “الجيل الرقمي” لأنه نشأ منذ طفولته وسط الإنترنت والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. ما يميزه ليس فقط أدواته، بل الطريقة التي يفكر بها ويتفاعل بها مع العالم. هنا، لا نتحدث فقط عن فارق في الوسائل، بل في الإدراك نفسه، وفي العلاقة مع المعلومة، ومع مفاهيم مثل الهوية، والمصداقية، والقراءة.

يظهر تقرير حديث أصدره “معهد رويترز لدراسة الصحافة” أن هذا الجيل لا يثق كثيرًا بالمؤسسات الإعلامية التقليدية، ويميل إلى تلقي الأخبار من المؤثرين عبر TikTok وInstagram، حيث تغلب لغة الصورة على لغة المقال. ليست المسألة نفورًا من القراءة بقدر ما هي تكيّف مع أدوات جديدة لفهم العالم.

تراجع المقروئية الكلاسيكية لا يعكس بالضرورة تراجعًا في الاهتمام بالأخبار، بل يعكس رغبة في أن تُقدّم المعلومة بسرعة، واختصار، وبشكل بصري.

هل ينبغي للصحافة أن تُغيّر رسالتها لإرضاء هذا الجيل؟

وفي محاولة لمجاراة هذا التحول، أكد نحو 42 في المائة من الناشرين الذين استطلعهم المعهد عزمهم إطلاق منتج شبابي هذا العام، مع تبني مبادرات تهدف إلى إعادة إنتاج المحتوى الإخباري في نصوص قصيرة، ومقاطع فيديو، و”ميمز” ساخرة، تراعي ذائقة هذا الجيل ولغته الرقمية.

أمام هذا الواقع، تسعى المؤسسات الإعلامية إلى إنتاج محتوى شبابي دون أن تتنازل – كما يُفترض – عن معايير المصداقية، لكن ثمّة إشكالية أعمق:

هل ينبغي للصحافة أن تُغيّر رسالتها لإرضاء هذا الجيل؟ أم أن المطلوب هو إعادة صياغة الخطاب الإعلامي بلغة العصر؟ في ظل هذا التحدي، يبرز الجيل الجديد من الصحفيين، الأقرب سنًا إلى جيل Z، كلاعب محوري في الجسر بين المهنية والابتكار.

جيل Z لا ينفر من المحتوى الإخباري، بل يريد محتوى يشبهه. وهذا يضع الصحافة أمام مفترق طرق: إمّا أن تتكلس في قوالبها القديمة، أو أن تنخرط في ورشة تحديث حقيقية تحترم ذكاء الجمهور الشاب، دون الوقوع في فخّ التفاهة.

الصحافة واللحاق بركب التغيرات الرقمية

في سعيها لمجاراة جيل Z ومواكبة التغيرات الرقمية، تخلت كثير من الوسائل الإعلامية عن جوهرها التحريري، وراحت تلهث خلف “اللايكات” و”المشاهدات”، متبنية خطابًا ترفيهيًا ساخرًا على حساب الدقة والعمق، حيث اختلط العمل الصحفي بمنشورات التواصل الإجتماعي، وأُعيدت صياغة الأخبار بأساليب تتعمد الإثارة لاجتذاب الانتباه، حتى بات من الصعب التمييز بين مقال صحفي وتحليل عشوائي على منصات التواصل.

هذا التحوّل، وإن بدا تكيفًا مشروعًا مع الزمن الرقمي، ينذر بخطر فقدان الصحافة لهويتها كسلطة رابعة، ويحوّلها إلى مجرد مزوّد محتوى، يخضع لمنطق الخوارزميات أكثر من معايير الحقيقة والمساءلة. الإعلاميون أنفسهم صاروا أحيانًا يلعبون دور المؤثر، لا المحقق، ويتحدثون بلغة المنصات لا لغة القَيم الصحفية. ومع أن “التأقلم” ضروري، إلا أن الخلط بين النشر العفوي والصحافة المهنية قد ينسف الثقة العامة، ويضع الجمهور أمام محتوى هجين، سريع الزوال، لكنه ضعيف التأثير.

وختامًا، لا يبدو أن الصحافة تواجه فقط تحدي اللحاق بجيل جديد، بل بصيغة جديدة من الوجود الإعلامي نفسه. ففي خضم الحديث عن “الجيل الرقمي”، برز مفهوم أكثر تعقيدًا وهو “الصحافة الكمية”، التي تتجاوز مجرد نقل الأخبار عبر الإنترنت، لتدخل زمنًا تُنتج فيه الخوارزميات المحتوى، وتُتوقَّع فيه التوجهات، وتُستبَق فيه اهتمامات الجمهور. لم نعد نتحدث فقط عن صحفي يدوّن الخبر، بل عن منظومة هجينة تجمع بين البيانات والتعلّم الآلي والمعالجة اللغوية. هنا، يصبح من المشروع أن نتساءل: من هو الصحفي؟ وما هي المعلومة؟ في هذا العالم المتحوّل، لا يكفي أن نُعيد صياغة اللغة الصحفية، بل قد نكون مضطرين لإعادة تعريف الصحافة نفسها.

Exit mobile version