في تحقيق خاص أجراه موقع “الصحفي”، نكتشف كيف تحولت علاقة الجزائريين بالقطط خلال السنوات الأخيرة من مجرد تربية بسيطة إلى ظاهرة اجتماعية متجددة، تأخذ أبعادًا عاطفية واقتصادية غير مسبوقة. من شوارع وهران إلى عواصم المدن الكبرى، أصبحت القطط ليست فقط رفقة يومية، بل محور استعراض وتفاخر على منصات التواصل الاجتماعي، وعلامة على مستوى معيشي جديد، رغم التحديات الاقتصادية التي تواجه الأسر. هذا التحقيق يكشف كيف تحولت القطة إلى “نجمة” ضمن عالم الاستهلاك والحنان في الجزائر المعاصرة، مع كل ما يحمله ذلك من دلالات نفسية واجتماعية.
في أحد شوارع وهران، تستوقفك قطة بشعر طويل وعينين فضوليتين، جالسة في عربة أطفال صغيرة يدفعها شاب بعناية وكأنها طفلته. مشهد يبدو مألوفًا في شوارع باريس أو ميلانو، لكن أن تراه في حي جزائري شعبي فذلك ما يثير التساؤل: ماذا يحدث؟ هل نحن فعلاً في بلد كان إلى وقت قريب يعتبر تربية القطط أمرًا ثانويًا؟
قبل سنوات قليلة، لم تكن تربية القطط في الجزائر تتجاوز إطارًا محدودًا من العلاقة اليومية العفوية بين الإنسان والحيوان. لكن شيئًا ما تغير، فجأة وبدون مقدمات واضحة، لتتحول القطة إلى كائن مركزي في حياة آلاف العائلات الجزائرية. لم تعد فقط مخلوقًا أليفًا يتجول في فناء المنزل أو يختبئ تحت الأثاث، بل أصبحت موضوعًا للصور، وللهوس، وللاستثمار المالي أيضًا.
إن علاقة الإنسان بالقطط قديمة قدم الحضارات. وقد وجدت هذه العلاقة في الجزائر أرضًا خصبة لإعادة التشكل، خاصة وسط الأجيال الجديدة التي رأت في القطة شريكًا عاطفيًا بديلاً في زمن القلق والانغلاق الاجتماعي. ومن الطبيعي أن يتوسع هذا الارتباط ليأخذ أبعادًا اجتماعية ونفسية مثيرة للاهتمام.
القطط في الجزائر من حيوان اليف الى ابن مدلل
تشير معطيات لعينة قام موقع الصحفي برصدها إلى أن عدد مربي القطط في المدن الجزائرية الكبرى شهد قفزة نوعية منذ عام 2020. و قد تحولت مواقع التواصل إلى فضاء رئيسي لاستعراض القطط، وتبادل النصائح، وحتى التباهي بسلالات نادرة أو إكسسوارات فاخرة، بل إن البعض لم يعد يتردد في صرف أكثر من (30,000 دينار) شهريًا لتغطية نفقات القطة من طعام، ولقاحات، وعناية طبية، ناهيك عن “السرير الخاص” أو الألعاب الذكية.
بينما ينظر البعض إلى الظاهرة كتعبير عن الرقي والتحضر، يرى آخرون أنها موجة من “تقليد الغرب”، سرعان ما تحولت إلى عبء مالي حقيقي، خصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. إذ أصبحت ميزانية الطعام وحدها تتطلب ما بين (3,000 إلى 5,000 دينار) شهريًا، في وقت يشهد فيه المواطن ضغوطًا متزايدة لتلبية احتياجاته الأساسية.
بمجرّد أن تطأ قدمك محلًّا لبيع مستلزمات القطط، يأخذك الذهول أمام الكمّ الهائل من السلع المعروضة. تنتشر على الرفوف أنواع لا تُعدّ ولا تُحصى من المأكولات: معلبات فاخرة، تونة بنكهات متعددة، لحوم مصبّرة، وحتى “الكروكات” المقرمشة، إلى جانب حلويات وشوكولاتة معدّة خصيصًا لها.
ولا تقتصر المعروضات على الطعام فحسب، بل تمتدّ إلى مستلزمات العناية والنظافة، من مقصات الأظافر، إلى أنواع الشامبو للفرو، والرمل المخصص لقضاء الحاجة، فضلًا عن أدوية وبخاخات مضادة للطفيليات. مشهدٌ يوحي بأن القطّة لم تعد مجرّد حيوان أليف، بل صارت ضيفة مدلّلة في عالم استهلاكي متكامل.
تقول السيدة “م.ر”، وهي ماكثة في البيت: “أنا أعشق تربية القطط، لكنها مكلفة جدًا وتتطلب ميزانية خاصة، قد تُقتطع من قوت أسرتك. أصبحت متعة التربية عبئًا ماليًا، إذ أنفق حوالي (5000 دينار جزائري) شهريًا على الأكل فقط.”
أما السيد “س.م”، وهو إطار، فيرى الأمر من زاوية مختلفة: “أنفق ما بين 20,000 و30,000 دينار على 3 قطط، وأعتبرهم مثل أبنائي. وأي شخص أرهقته التربية فعليه التخلي عنها.”
بينما عبّرت السيدة “أ.ن” عن استغرابها من المبالغة التي ترافق هذا السلوك: “هناك من يبالغ في إظهار الحب للقطط، حتى أصبح الأمر بديلًا عن العلاقات البشرية.”
تربية القطط كملاذ نفسي: بين الوحدة والحنين في زمن الجائحة
ولا يمكن إغفال البعد النفسي في تفسير هذه الظاهرة. فالكثير من الشباب، خصوصًا الإناث، يجدون في تربية القطط ملاذًا من الوحدة، أو علاجًا غير مباشر للقلق والاكتئاب. وهنا يُطرح السؤال: هل نحن أمام حاجة عاطفية حقيقية، أم فقط سلوك استهلاكي جديد مدفوع بالمظاهر والتقليد؟
ترى الأخصائية النفسية العيادية عبيد مروى، أن تربية القطط بشكل عاطفي مفرط لا يُعد فقط سلوكًا اجتماعيًا جديدًا، بل هو أيضًا تعبير عن احتياجات نفسية دفينة. فالقطة، بالنسبة لبعض الأشخاص، خاصة الذين شملهم التحقيق يعطي تصورات أبرزها.
- قبولًا غير مشروط. للظاهرة
- دفئًا عاطفيًا دون تعقيدات العلاقات البشرية.
- روتينًا يوميًا يُعيد الإحساس بالاستقرار والهدف.
وتُفسّر المختصة النفسانية الدكتورة عبيد مروى،، التعلق المفرط على أنه إسقاط نفسي، حيث تمثّل القطة أحيانًا بديلًا عن طفل مفقود أو رمزًا لحب غير متحقق،لأن العناية اليومية بالقطط تُحفّز، كما تقول، الجانب الأبوي أو الأمومي، وتمنح الشعور بالمسؤولية والرضا عن الذات. لكن هذا التعلّق، في نظرها، قد يكون أيضًا هروبًا من علاقات بشرية مؤلمة أو مرهقة، فبينما العلاقات مع البشر تتطلب تفسيرًا، وتحمّلًا، وخيبات، فإن العلاقة مع القطة بسيطة، ومباشرة، وهادئة.
وترى الدكتورة عبيد مروى، أن الظاهرة تتفجّر اليوم لأسباب متعددة، من بينها:
- الوحدة أو العزلة الاجتماعية.
- القلق والاكتئاب.
- الطفولة التي شهدت علاقة قوية بالحيوانات.
- الخسارات العاطفية أو الفقدان.
بين الماضي والحاضر.. تحوّل في العمق
العلاقة التقليدية بين الجزائريين والقطط كانت بسيطة وغير مكلفة، لكن بعد جائحة كوفيد-19، تسارعت التحولات الاجتماعية والعاطفية، لتظهر أنماط جديدة من التعلق العاطفي والاستهلاك. وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا كبيرًا في ترسيخ هذا النموذج، المستورد من ثقافات تعاني أصلًا من الوحدة والتفكك الأسري.
و يمكن القول في الأخير، تربية القطط في الجزائر لم تعد مجرد هواية، بل تحوّلت إلى ظاهرة اجتماعية معقدة تتقاطع فيها الحاجة إلى الحميمية مع الضغوط الاقتصادية، ويتداخل فيها الشعور بالوحدة مع هوس الاستعراض. إنها مرآة جديدة لواقع نفسي واجتماعي يعيش فيه الفرد الجزائري بين عالمين: عالم العاطفة المكبوتة، وعالم الصورة المستعارة