و قالت شركة “رينو” الفرنسية لصناعة السيارات إن وزارة الدفاع في باريس طلبت منها رسميًا بحث إمكانية المساهمة في إنتاج طائرات مسيّرة، في خطوة قد تشمل التعاون مع كييف على المدى المتوسط. وأوضحت الشركة، بحسب ما نقلته وكالة “رويترز”، أنها تلقّت اتصالات من السلطات الفرنسية بهذا الخصوص، مشيرة إلى أن المشروع ما يزال في مرحلة “الدراسة الأولية” ولم يُتخذ أي قرار عملي بشأنه حتى الآن.
الخطوة الفرنسية تأتي في إطار جهود أوروبية متصاعدة لتعزيز القدرات الدفاعية لأوكرانيا، في ظل استمرار الحرب ضد روسيا. ووفق تصريحات وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان ليكورنو، فإن باريس تسعى إلى إقامة “شراكات صناعية مبتكرة” تتيح دعم كييف بمعدات دفاعية، بينها طائرات مسيّرة يتم إنتاجها داخل فرنسا أو في أوكرانيا لاحقًا.
وبينما لم توضح “رينو” تفاصيل تقنية أو لوجستية بشأن نوعية الطائرات المسيّرة أو الجهات التي قد تشارك في الإنتاج، إلا أن الشركة أكدت التزامها بدراسة الطلب ضمن رؤيتها “للتحول التكنولوجي” ومساهمة الصناعات المدنية في الأمن الأوروبي.
وتطرح هذه المبادرة تساؤلات حول التحول التدريجي لبعض الصناعات المدنية الكبرى نحو دعم الصناعات الدفاعية، خاصة في ظل تصاعد الضغوط الأوروبية لتوسيع قاعدة الإنتاج العسكري في مواجهة التحديات الجيوسياسية الراهنة.تُشكل مطالبة وزارة الدفاع الفرنسية لشركة “رينو” بدراسة إنتاج طائرات مسيّرة في أوكرانيا تطورًا لافتًا في مسار “التعبئة الصناعية الدفاعية” الأوروبية، حيث تُدفع شركات مدنية ذات طابع تجاري إلى الانخراط تدريجيًا في مجهود حربي خارج الحدود. ورغم أن الخطوة لا تُعد تعبئة شاملة بالمعنى العسكري التقليدي، إلا أنها تشير إلى مرحلة جديدة من “التحول الصناعي ذي الاستخدام المزدوج”، يعكس تصاعد منطق “اقتصاد الحرب” في العقل الأوروبي. وتكشف هذه الخطوة عن نزعة متزايدة لدى باريس وحلفائها لإعادة تشكيل سلاسل التوريد العسكرية عبر تمركز الإنتاج داخل أوكرانيا، بما يعزز من قدرة كييف الدفاعية ويخفف العبء اللوجستي على الجبهات. في خلفية هذا التحرك تلوح ملامح إعادة تسلّح ممنهجة، لا تقتصر على الدعم العسكري بل تشمل إعادة هندسة العلاقة بين الصناعة والدفاع في زمن الصراعات المفتوحة.
هذه الخطوة الفرنسية تذكرنا بسجل طويل من التحول الصناعي المدني إلى الصناعات الدفاعية خلال أوقات الحرب، كما حدث مع شركات أمريكية بارزة في الحرب العالمية الثانية. فمثلاً بعد الحرب العالمية الاولى، حولت شركات مثل “جنرال موتورز” و”فورد” مصانعها بالكامل من إنتاج السلع المدنية إلى تصنيع المعدات العسكرية، ما ساهم في تعزيز القدرات القتالية للحلفاء بشكل حاسم. واليوم، تكرّس فرنسا، كعضو فعّال في حلف الناتو، نفس النهج عبر دفع شركة “رينو” لدراسة تصنيع طائرات مسيّرة، في خطوة تعكس تجدد مفهوم “التعبئة الصناعية الدفاعية” ضمن السياق الجيوسياسي الراهن.
و تتعدد أنواع التعبئة في الحروب لتشمل مختلف جوانب الدولة والمجتمع، إذ لا يقتصر المجهود الحربي على ساحة القتال فقط، بل يمتد ليشمل البنية الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والسياسية. أولاً، التعبئة العسكرية التي تتضمن استدعاء الجنود، وتجنيد القوات، وتدريبها وتجهيزها لمواجهة العدو، وهي اللبنة الأساسية لأي مواجهة مسلحة.
ثانياً، التعبئة الصناعية التي تلعب دوراً محورياً عبر تحويل المصانع المدنية إلى وحدات إنتاج عسكرية، مثلما حدث خلال الحرب العالمية الثانية عندما تحولت مصانع السيارات إلى مراكز لإنتاج الدبابات والطائرات.
ثالثاً، التعبئة الاقتصادية التي تشمل تخصيص الموارد المالية والمادية من خلال فرض الضرائب والسندات الحربية، وإعادة توزيع المواد الخام لمصلحة الصناعة العسكرية، مع التحكم بالأسعار لضمان استقرار الأسواق أثناء الأزمة.
رابعاً، التعبئة الاجتماعية التي تعتمد على تحفيز المجتمع عبر الدعاية والإعلام لإشاعة روح التضحية الوطنية ودعم الجبهة الداخلية، مما يعزز من تماسك المجتمع في وجه المحن.
خامساً، التعبئة التكنولوجية التي تركز على تطوير ابتكارات وتقنيات متقدمة تعزز القدرات القتالية، مثل تطوير الطائرات المسيّرة وأنظمة الاتصالات المتقدمة.
وأخيراً، التعبئة القانونية والسياسية التي تسمح بسن قوانين الطوارئ، وتفعيل الرقابة، وتعديل التشريعات بما يضمن تسيير المجهود الحربي بفعالية دون تعطيل. تجتمع هذه الأنواع لتشكل منظومة متكاملة تُمكّن الدول من مواجهة تحديات الحرب بكفاءة، مع تسليط الضوء على كيف يمكن لتحولات صناعية مثل طلب وزارة الدفاع الفرنسية من “رينو” دراسة إنتاج طائرات مسيرة في أوكرانيا أن تمثل جزءاً من هذه التعبئة الحديثة.
المصدر: رويترز + الصحفي