من هو كاتب فيلم “وقائع سنين الجمر”؟

في تزامن استثنائي بين الغياب والتكريم، ودّعت الجزائر أحد أعمدة سينماها، المخرج الكبير محمد الأخضر حمينة، يوم 23 ماي 2025، وهو التاريخ نفسه الذي أعاد فيه مهرجان “كان” الاعتبار لأحد أعظم إنجازاته السينمائية: فيلم “وقائع سنوات الجمر”، الذي احتفل في ذات اليوم بمرور خمسين عامًا على تتويجه بالسعفة الذهبية سنة 1975، كأول عمل عربي وإفريقي يحقق هذا التميّز العالمي.

الفيلم الذي يُعدّ علامة فارقة في تاريخ السينما الجزائرية والعالمية، لم يكن ليكتمل دون مساهمة أسماء أدبية بارزة، في مقدمتها رشيد بوجدرة، الذي شارك في كتابة السيناريو إلى جانب توفيق فارس والمخرج نفسه. وقد جاءت النتيجة عملاً كثيفًا في لغته وبنيته، ينسج مأساة الإنسان الجزائري تحت نير الاستعمار الفرنسي، ويستحضر جذور الغضب الشعبي الذي مهّد لانطلاق ثورة التحرير.

من هو رشيد بوجدرة:

رشيد بوجدرة يُعد من أبرز رموز الأدب الجزائري المعاصر، وهو كاتب جمع بين الجرأة الفكرية والتجريب اللغوي، ما جعله صوتًا فريدًا في الساحة الأدبية. وُلد في 5 سبتمبر 1941 بعين البيضاء، وتكوّن في مدارس النخبة الفرنسية قبل أن ينخرط في صفوف الثورة التحريرية، وهو ما منح كتاباته طابعًا نضاليًا عميقًا.

تميّزت أعمال بوجدرة بسرد متداخل ومركّب، وبنصوص تمتح من الفلسفة والسياسة والتحليل النفسي، مما جعله كاتبًا يثير الجدل والإعجاب في آن. من بين أبرز رواياته: “التطليق” (1970) التي هزّت الأوساط الثقافية وقت صدورها، و”الحلزون العنيد”، و”فوضى الأشياء”، وكلها أعمال تُعبّر عن قلق الذات الجزائرية ما بعد الاستقلال، وتطرح أسئلة الهوية، السلطة، والحرية.

ولم يكن بوجدرة مجرد كاتب روايات، بل هو مثقف ملتزم، دخل معارك فكرية كثيرة، سواء ضد الاستبداد السياسي أو الانغلاق الديني، ولم يتردد في خوض التجارب حتى في السينما، حيث كتب سيناريوهات عدة أفلام جزائرية شهيرة.

و لم يكن بوجدرة روائيًا فقط، بل كان حاضرًا بقوة في المشهد السينمائي الجزائري، حيث ساهم في كتابة عدد من الأفلام التي تعكس رؤيته الفلسفية والفكرية، أبرزها:

ساهم بوجدرة في هذه الأعمال إما ككاتب سيناريو أو مستشار أو مشرف فكري، وغالبًا ما حملت الأفلام بصمته الرمزية، وبناؤه السردي المُركّب، وهمومه الوجودية، كانت تلك الأفلام تتسم بما يمكن وصفه بـ”الرواية البصرية”، إذ تمزج بين الخط الزمني المتشظي، والتكثيف الرمزي، والانشغال بالأسئلة لا الأجوبة. لا يخشى من استعمال الصورة كساحة للتفكيك والنقد، تمامًا كما يفعل بالقلم. وحتى حين عمل مع مخرجين مختلفين، كانت نبرته الأدبية القلقة والجريئة حاضرة في الخلفية، موجِّهة للصياغة والتأويل.

روايات بوجدرة كانت دومًا حادة، غنية بالتشابك اللغوي والفكري، وتمسّ موضوعات “محرّمة” مثل الدين، الجنس، السلطة، والهوية. هذا الطرح الصريح، المقترن بأسلوب لغوي كثيف ومعقد، جعل من كتبه موادًا فكرية عالية التوتر، تخاطب القارئ مباشرة، وتضعه أمام تساؤلات قد تُزعزع ما يعتقده أو يُقدّسه، لذلك، كثير من القرّاء والنقّاد ـ خاصة المحافظين ـ تلقّوا أعماله كـ”استفزاز فكري”، بل وُجهت إليه اتهامات بالإلحاد أو تقويض “الثوابت”.

بين الرواية والسينما: اختلاف في استقبال الطرح الجريء

رشيد بوجدرة ليس فقط كاتب وقائع سنين الجمر، بل هو واحد من المهندسين الفلسفيين للسينما الجزائرية الطليعية. رؤيته الأدبية – المركّبة، الرمزية، المتمردة – جعلت من السينما امتدادًا طبيعيًا لحبره، وجعلت من أفلامه نوافذ فكرية لا تُغلق.

لكن المفارقة اللافتة في مسيرة بوجدرة أن أعماله الأدبية، التي تميزت بطرحها الجريء وقوة اللغة، كثيرًا ما تلقت نقدًا حادًا عند نشرها، بينما تلقاها الجمهور السينمائي بحفاوة وإعجاب كبير حين تحولت إلى أفلام. فما سر هذا التباين في التلقي؟

روايات بوجدرة كانت دومًا أعمالًا صادمة ومتمردة، تعالج مواضيع مثل الدين، السلطة، والجنس بأسلوب معقد ومكثف، ما جعلها تواجه نقدًا شرسًا من النقاد والجمهور المحافظ. فهي تخاطب القارئ مباشرة، وتدفعه إلى مواجهة أفكار قد تبدو مهددة للمألوف.

في المقابل، السينما تعتمد على لغة بصرية تجريدية وإيحائية. الأفكار الجريئة تتحول إلى مشاهد، رموز، وحوارات تحمل عاطفة وتجربة حسية تخفف من حدة المواجهة المباشرة. لذلك، يمكن للجمهور تقبل هذه الأفكار بصيغة درامية فنية، ما جعل أعمال بوجدرة السينمائية تحظى بإعجاب واسع رغم عمقها الفلسفي ونقدها الاجتماعي.

بوجدرة في السينما: رمزية وتلطيف بصري

حين دخلت أفكار بوجدرة عالم السينما، حدث أمر مهم،  تحوّلت المواجهة المباشرة إلى تجربة بصرية رمزية، والسبب أن السينما تميل إلى الإيحاء لا التصريح، أما الجمهور فغالبًا ما يتفاعل مع العاطفة والجو العام للفيلم أكثر من تحليله الحرفي أو الأيديولوجي، وهنا يكمن السر: ما يُهاجَم في الرواية على مستوى الأفكار، قد يُحتفى به في الفيلم على مستوى التأثير الفني.

للتذكير ولد رشيد بوجدرة سنة 1941 بمدينة عين البيضاء شرق الجزائر، وقد كتب باللغتين الفرنسية والعربية، وكان ينتقل بينهما بحُرية فكرية ولسانية نادرة، ويُعدّ من أبرز الأصوات الأدبية والفكرية في العالم العربي. كاتب وروائي وشاعر، اتسمت أعماله بنزعة تجريبية جريئة، وانشغال دائم بالهوية، الدين، السياسة، والحداثة. اشتهر بأسلوبه اللغوي الكثيف والمعقد، وتراكيبه المتشابكة التي تتحدى القارئ وتدفعه إلى التفكير لا الاستهلاك. وُصف مرات بأنه “الكاتب الذي يكتب ضد التيار”، حيث لم يتردد في نقد الأنظمة، وكشف التابوهات، خصوصًا الدينية والجنسية، ما جعله شخصية مثيرة للجدل، ومحل احترام فكري في آنٍ معًا.

Exit mobile version