تحت عنوان “برنامج مكافحة السل في الجزائر: 60 عامًا من التقدم”، تطرق تقرير نُشر في مجلة Cureus العلمية إلى التجربة الجزائرية الطويلة والناجحة في مكافحة داء السل، مبرزًا التطورات المرحلية التي شهدتها الاستراتيجية الوطنية منذ الاستقلال سنة 1962، وحتى انخراط الجزائر في الاستراتيجية العالمية “إنهاء السل” التابعة لمنظمة الصحة العالمية.
الافتتاحية
يمثل التحكم في مرض السل قضية مهمة في برامج الصحة العامة المختلفة التي وضعتها منظمة الصحة العالمية والجمعيات الطبية الدولية والوطنية الأخرى. وتعتبر منظمة الصحة العالمية الجزائر من الدول التي أحرزت تقدمًا ملحوظًا في الصحة العامة في عدة مجالات، بما في ذلك مكافحة وباء السل. وبفضل تصميم وتنفيذ العديد من برامج مكافحة السل، انخفض المرض بشكل ملحوظ في معدل الإصابة، والاعتلال، والوفيات على مدى العقود الماضية في الجزائر.
بعد استقلالها عام 1962 وبالنظر إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي في ذلك الوقت، واجهت الجزائر عدة تحديات، أبرزها تحدي الصحة العامة، وكذلك على المستوى الاقتصادي، الذي كان الوضع الصحي العام يعتمد عليه بشكل كبير. وكانت جائحة السل إحدى المشاكل الرئيسية في الصحة العامة خلال هذه الفترة. تتوفر بيانات قليلة لتقدير وبائية السل في الجزائر خلال السنوات الأولى من الاستقلال. ومع ذلك، سمحت البيانات المستمدة من مسوحات اختبارات الجلد بالتيوبركولين بتقدير غير مباشر للحالة العامة للمرض. بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال حملات التطعيم الأولية بلقاح عصية كالميت-جيران (BCG)، أبلغت الدراسات التي استخدمت اختبارات التيوبركولين لتقدير انتشار السل عن انخفاض في الخطر السنوي للإصابة بالسل، حيث انخفض من 5.01% في عام 1938 إلى 4.09% في عام 1948. بالإضافة إلى ذلك، قدرت مسوحات أخرى معدل إصابة يبلغ حوالي 300 حالة لكل 100,000 نسمة، مما يعكس الوضع الوبائي للسل في الجزائر قبل عقود قليلة من استقلالها.
بعد استقلال الجزائر عام 1962، أجريت مسوحات انتشار في مناطق مختلفة من البلاد. اعتمدت هذه المسوحات بشكل أساسي على اختبارات الجلد بالتيوبركولين بين تلاميذ المدارس، حيث لم تكن طرق الفحص المتقدمة متاحة بعد. بين عامي 1966 و1967، أبلغت الدراسات عن انخفاض كبير في الخطر السنوي للإصابة بالسل، على الرغم من ملاحظة تباينات ملحوظة بين المناطق الحضرية والريفية. وتراوح هذا الخطر من 2.5% إلى 4%، اعتمادًا على المنطقة. تزامن هذا التقدم مع إنشاء مكتب السل في عام 1964، وهي وحدة تابعة لوزارة الصحة مسؤولة عن إدارة ومراقبة السل. في عام 1966، تلقت الوحدة دعمًا من هيئة خبراء تعرف باللجنة الوطنية الاستشارية لأمراض الصدر.
جاءت هذه المبادرة بعد توصيات من خبراء وطنيين دعوا إلى إنشاء الرابطة الجزائرية لمكافحة السل. وكانت هذه المنظمة، المنتسبة إلى المدارس الطبية الرئيسية الثلاث في ذلك الوقت، الجزائر العاصمة، ووهران، وقسنطينة، بالإضافة إلى أقسام أمراض الصدر والرئة فيها، مكلفة بتنسيق جهود مكافحة السل على مستوى البلاد.
استندت مهمتها إلى أربعة أهداف رئيسية: تقييم الموارد وتوزيعها بعدالة؛ تقييم الإصابة والانتشار بناءً على المعطيات الاجتماعية؛ تنظيم برامج تكوين الأطباء والممرضين؛ وإنشاء مركز وطني للبحث والتوثيق حول السل بالتعاون مع وزارة الصحة. شكلت هذه الأهداف الأساس لبرامج مكافحة السل المختلفة في الجزائر.
التقدم في مكافحة السل
أُطلق أول برنامج وطني للعلاج الكيميائي لمكافحة السل في عام 1966، وقدم أنظمة علاج موحدة من الخط الأول تجمع بين الإيزونيازيد، والستربتومايسين، وحمض البارا-أمينوساليسيليك لمدة 24 شهرًا، مع نظام علاج احتياطي يشمل أدوية بديلة، وكلها مجانًا وللعيادات الخارجية.
في نفس الفترة، أُجريت تجارب علاجية لاختبار أنظمة أقصر، مدتها 12 شهرًا، من خلال إعطاء الأدوية مرتين في الأسبوع.
السبعينات والتطورات المحورية
في السبعينات، ومع عدد سكان يقدر بـ15 مليون نسمة، شكلت ثلاث تطورات محورية السياسة الجزائرية في مكافحة السل: قطاعية الخدمات الصحية، إطلاق البرنامج الوطني لمكافحة السل سنة 1972، وإنشاء مختبر وطني للبحث. أدى ذلك إلى تراجع في معدل الإصابة السنوي من 78 إلى 60 حالة لكل 100,000 نسمة بين 1975 و1981.
الثمانينات والتقدم المحرز
شهدت هذه الفترة تطعيمًا واسعًا بلقاح BCG، وتوسعًا في مختبرات الفحص المجهري، واعتمادًا لنظام علاجي قصير الأمد مدته ستة أشهر. أدى ذلك إلى خفض معدلات الإصابة، خصوصًا بين الأطفال.
التسعينات والتحديات
تميزت بعدم استقرار اقتصادي واجتماعي أثر على مكافحة السل، مع نقص في الأدوية ومستلزمات التشخيص. ارتفعت حالات السل السلبية لللطاخة.
إعادة تنشيط البرنامج الوطني
صدر دليل وطني جديد سنة 1999، باعتماد استراتيجية DOTS وكشف 70% من الحالات المعدية وعلاج 85% منها بنجاح.
الألفينيات والاستراتيجيات الجديدة
بين 2000 و2005، تم تحديث نظام المعلومات وتحسين التلقيح بلقاح BCG، وتبنّت الجزائر أدوية بجرعات موحدة، وأنشأت مجموعات تنسيق إقليمية.
من 2006 إلى 2015 وتحدي “إنهاء السل”
أعادت الجزائر هيكلة مؤسسات الصحة، ودمجت وحدات مكافحة السل ضمن خدمات الأمراض المعدية. كما واصلت خفض معدلات الإصابة لتصل إلى أقل من 17 حالة لكل 100,000 نسمة سنة 2016.
للتذكير مجلة Cureus هي مجلة علمية طبية أمريكية، تنتمي إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تأسست سنة 2009 من قبل الدكتور جون أدلر (John Adler)، أستاذ جراحة الأعصاب بجامعة ستانفورد، وهي تصدر حاليًا من مدينة بالو ألتو (Palo Alto) في ولاية كاليفورنيا.
و للاشارة Cureus هي مجلة طبية إلكترونية علمية مفتوحة الوصول، تهدف إلى تسريع نشر الأبحاث الطبية السريرية وتوسيع قاعدة المشاركة فيها. تأسست بدعم من أطباء وباحثين من جامعة ستانفورد، وتُدار من سان فرانسيسكو، الولايات المتحدة. تتميز Cureus بكونها مجانية النشر والقراءة، وتخضع مقالاتها لمراجعة علمية (Peer-review)، ما يجعلها منصة مرنة وسريعة لنشر المعرفة الطبية. تعتمد المجلة نظامًا خاصًا لتقييم المقالات يُعرف بـ”Scholarly Impact Quotient (SIQ)”، يعكس تأثير الأبحاث على المجتمع الطبي. وتغطي المجلة مختلف التخصصات الطبية، مع تركيز على تعزيز الوصول العادل إلى البحث العلمي عالميًا.