فضل الجزائر على الديمقراطية في البرتغال

تحث عنوان “فضل الجزائر على الديمقراطية في البرتغال هو دين لا يقدر بثمن” تطرّق مقال لجريدة “الخبر” لتصريحات خوسي خواو أبرانتس، رئيس المحكمة الدستورية البرتغالية، الذي ثمّن من وهران موقف الجزائر التاريخي في دعم المعارضة البرتغالية ضد النظام الديكتاتوري، واعتبر أن هذا التضامن يمثّل دينًا لا يُقدّر بثمن، يعكس التزام الجزائر المبدئي بمناصرة الشعوب في نضالها من أجل الحرية.

و افاد مقال  “الخبر” أنه و  خلال محاضرته بجامعة وهران 1 محمد بن أحمد، اختار أبرانتس أن يتوقف مطولًا عند موقف الجزائر من معارضي النظام الديكتاتوري البرتغالي قبل 1974، معتبرًا أن تضامن الجزائر ودعمها لحركات التحرر في إفريقيا، وعلى رأسها موزمبيق وأنغولا وغينيا بيساو، لم يكن موجهًا ضد الشعب البرتغالي، بل نابعًا من قناعة مبدئية بنصرة الشعوب المستعمرة، بما فيها الشعب البرتغالي نفسه، الذي كان يخضع لحكم استبدادي امتد لأكثر من أربعة عقود.

وقال كاتب المقال أن هذا الاعتراف لم يكن الأول من نوعه، لكنه يحمل طابعًا رمزيًا، بالنظر إلى موقع المتحدث على رأس أعلى هيئة دستورية في البرتغال، وطرحه للمسألة في سياق أكاديمي وقانوني مخصص لحماية الحقوق الأساسية. وهو ما يُفهم منه أن الجزائر لم تكن فقط ساحة لنضالات التحرر الإفريقي، بل أيضًا حاضنة لشرعية كفاح الشعوب الأوروبية التي كانت تسعى للتخلص من الاستبداد الداخلي.

الكاتب اشار ان تصريحات رئيس المحكمة البرتغالية جاءت  في إطار محاضرة بعنوان “رهانات حديثة لممارسة المحكمة الدستورية: تأثير الحالات الاستثنائية على حماية الحقوق الأساسية”، بحضور ليلى عسلاوي، رئيسة المحكمة الدستورية بالنيابة، وأعضاء المحكمة، وأحمد شعلال، مدير جامعة وهران 2، وممثلين عن قطاع العدالة والجامعات بوهران ووالي الولاية.

منفى بجاية… ذاكرة منسية

تصريحات أبرانتس من وهران لم تكن مجرد لفتة دبلوماسية، بل استعادة متأخرة لحقيقة مسكوت عنها في السردية الرسمية الأوروبية، التي كثيرًا ما تفصل بين الديمقراطية داخل القارة والتدخلات الاستعمارية خارجها. ومن المثير أن يصدر هذا الاعتراف عن أعلى هيئة قضائية في البرتغال، وفي محاضرة أكاديمية مخصصة لحماية الحقوق الأساسية، ما يعكس وعيًا متقدّمًا بترابط النضال من أجل الحرية، سواء في لشبونة أو في لواندا.

أبرز ما استُحضر في المحاضرة أيضًا هو إقامة مانويل تيكسيرا غوميز، أول رئيس للجمهورية البرتغالية عام 1911، في مدينة بجاية الجزائرية، هربًا من الاستبداد الذي اجتاح بلاده. فقد اختار بجاية منفىً اختياريًا بين 1926 و1931، حيث واصل الكتابة والتأمل السياسي. هذا التفصيل التاريخي يُبرز أن العلاقة بين البرتغال والجزائر ليست فقط سياسية، بل إنسانية وثقافية، تعود لعقود طويلة قبل الاستقلال

الجزائر مكة الثوار

بعد الاستقلال عام 1962، تحولت الجزائر إلى عاصمة للثورات العالمية، واحتضنت العديد من الحركات التحررية من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ومن هذا المنطلق، لم يكن غريبًا أن يفتتح فرع خارجي لحركة “الفهود السود” في الجزائر العاصمة، خصوصًا بعد تصاعد ملاحقة نشطائها في الولايات المتحدة من طرف الـFBI ضمن برنامج “COINTELPRO”.

لم تكن الجزائر بعد الاستقلال مجرد بلد داعم لحركات التحرر الإفريقية، بل كانت تُوظّف هذا الدعم في إطار استراتيجية سياسية تستهدف الأنظمة الاستعمارية في الصميم. وبالنسبة للبرتغال، كان نظام أنطونيو دي أوليفيرا سالازار يُعدّ من أكثر الأنظمة استبدادًا وعنصرية في أوروبا الغربية، حيث استمر في التمسك بمستعمرات في إفريقيا (أنغولا، موزمبيق، غينيا بيساو) رغم تصاعد الكفاح المسلح فيها.

هنا تحديدًا، لعبت الجزائر دورًا جوهريًا. فمنذ مطلع الستينيات، تحوّلت الجزائر إلى مركز تنسيق إقليمي لحركات التحرر الإفريقية، وعلى رأسها:

هذه الحركات تلقّت من الجزائر تدريبًا عسكريًا، دعمًا لوجستيًا، تسليحًا، وإسنادًا دبلوماسيًا واسعًا في المحافل الدولية. وبتصعيد المقاومة في المستعمرات، أصبح الجيش البرتغالي مستنزفًا على ثلاث جبهات إفريقية، وهو ما سرّع التململ الداخلي داخل المؤسسة العسكرية البرتغالية، وأدى إلى انقلاب 25 أفريل 1974 المعروف بـ”ثورة القرنفل”، التي أسقطت الديكتاتورية وفتحت الباب أمام بناء الديمقراطية.

مانديلا الجزائر مدرسة ثورية

يُعد نيلسون مانديلا من أبرز القادة الذين وجدوا في الجزائر ليس فقط حليفًا سياسيًا، بل مدرسة ثورية حقيقية شكّلت جزءًا أساسيًا من وعيه النضالي. ففي عام 1962، زار مانديلا الجزائر سرًّا، قادمًا من إثيوبيا، والتقى بعدد من قيادات جبهة التحرير الوطني في ذروة الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي. خلال هذه الزيارة، تلقّى تدريبات عسكرية مع مجاهدي جيش التحرير، وتعرّف على أساليب التنظيم والتكتيك في حرب العصابات، وهو ما وصفه لاحقًا في مذكراته بأنه “التحوّل الجذري” في مسيرته السياسية، حيث قال: “الجزائر هي البلد الذي جعل مني رجلًا”.

الجزائر، من جهتها، لم تكتفِ بالاستقبال الرمزي، بل قدّمت دعمًا فعليًا لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC)، واحتضنت عناصر منه، ووفرت لهم التدريب والإسناد السياسي، وشاركت في حشد الدعم الدولي لقضية مناهضة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. ومن شدة ارتباطه بالجزائر، مُنح مانديلا جواز سفر جزائري خلال سنوات نشاطه السرّي، مكّنه من التحرك بحرية في إفريقيا والعالم.

وعند خروجه من السجن سنة 1990، اختار الجزائر لتكون أول بلد غير إفريقي يزوره، تقديرًا منه للدور التاريخي الذي لعبته في دعمه الشخصي وفي إسناد كفاح شعبه. هذا الامتنان العلني والمتكرّر من مانديلا يؤكد أن علاقة الجزائر بحركات التحرر لم تكن فقط سياسية، بل كانت وجدانية وأخلاقية، مبنية على قناعة راسخة بوحدة مصير الشعوب المضطهدة.

ذاكرة سياسية يجب صيانتها

تصريحات أبرانتس تعيد الاعتبار لدور الجزائر في بناء نظام عالمي أكثر عدلًا في فترة الحرب الباردة، وتؤكد أن الدعم الثوري الذي قدّمته الجزائر في الستينيات لم يكن فقط موجّهًا ضد الاستعمار التقليدي، بل أيضًا ضد أشكال الاستبداد التي كانت تضرب جذورها داخل أوروبا.

قد لا تكون الجزائر قد قدّمت دعمًا مباشرًا للمعارضة البرتغالية الداخلية، لكنها ساهمت في كسر العمود الفقري للنظام البرتغالي من خلال إسناد حركات تحرر كانت تشكل التهديد الأكبر له، بل وربما السبب المباشر في انهياره.

في النهاية، فإن اعتراف البرتغال بهذا “الدين الأخلاقي” هو أكثر من إشادة رمزية؛ إنه دعوة ضمنية إلى الاعتراف بتاريخ التضامن الثوري العالمي، وإلى صياغة مستقبل العلاقات الثنائية على أسس من الذاكرة المشتركة، لا المصالح الظرفية فقط.

Exit mobile version