من داكار إلى نجامينا…أفول النفوذ العسكري الفرنسي في إفريقيا

أعلنت فرنسا رسميًا أمس الخميس 17 جويلية إنهاء وجودها العسكري في السنغال، بعد أكثر من ستة عقود من التمركز في هذا البلد الواقع غرب إفريقيا، حيث تم تسليم آخر موقع عسكري للسلطات السنغالية يوم الثلاثاء 16 يوليو 2025، وفق ما أفادت به وكالة الأنباء السنغالية (APS) وعدد من الصحف الفرنسية.

ويأتي هذا الانسحاب في إطار سياسة فرنسية جديدة لإعادة رسم استراتيجيتها الدفاعية في القارة الإفريقية، خصوصًا بعد تنامي المطالب المحلية بالسيادة الوطنية وتعاظم الانتقادات الشعبية للتواجد العسكري الفرنسي في عدد من الدول الإفريقية.

وكانت القوات الفرنسية قد استخدمت قاعدة “أويكام” في العاصمة داكار كمقر رئيسي لها، لكنها أخلتها نهائيًا وسلمتها للجيش السنغالي. وقد حضر حفل التسليم مسؤولون من الجانبين، من بينهم السفير الفرنسي في داكار وقائد القوات الفرنسية في السنغال، إلى جانب كبار قادة الجيش السنغالي.

ويمثل هذا الانسحاب نهاية فصل من العلاقات العسكرية بين باريس وداكار، يعود إلى ما بعد الاستقلال السنغالي في 1960، حين احتفظت فرنسا بوجود عسكري دائم في البلاد ضمن اتفاقيات دفاع مشترك.

فرنسا تنسحب من إفريقيا: نهاية فصل عسكري دام عقودًا

لم يكن انسحاب فرنسا من السنغال مجرد إجراء تقني يُنهي وجودًا عسكريًا استمر لعقود، بل هو حلقة أخيرة في سلسلة متواصلة من الانسحابات، تعكس تحوّلاً بنيويًا في علاقة باريس بمستعمراتها السابقة في إفريقيا. فالقارة، التي لطالما اعتُبرت مجالًا حيويًا للنفوذ الفرنسي، باتت اليوم تتملّص بهدوء – وأحيانًا بحدة – من إرث الهيمنة والتدخل العسكري، مُعلنة بداية عصر جديد من إعادة صياغة السيادة.

على امتداد السنوات القليلة الماضية، لم يعد الوجود العسكري الفرنسي موضع ترحيب في معظم العواصم الإفريقية. بين انقلابات شعبية في الساحل وغليان وطني في غرب إفريقيا، أُجبرت باريس على الانسحاب من مالي والنيجر وبوركينا فاسو تحت ضغط مباشر، بينما شهدت دول مثل تشاد وساحل العاج والسنغال تحولات أكثر تنظيمًا، لكنها لا تقل دلالة. الحجة المشتركة كانت دائمًا: استعادة القرار الأمني ورفض الوصاية الرمزية.

مالي: القطيعة تبدأ من هنا

أعلنت السلطات الانتقالية في مالي، التي تولّت الحكم بعد انقلاب عسكري عام 2021، إنهاء اتفاقيات التعاون الدفاعي مع فرنسا. وردّت باريس بسحب قواتها بحلول أغسطس 2022، منهية بذلك عملية “برخان” لمكافحة الإرهاب، التي كانت تُعد العمود الفقري للوجود الفرنسي في الساحل.

إفريقيا الوسطى: الخروج بهدوء

رغم أن الانسحاب من جمهورية إفريقيا الوسطى لم يحظ بتغطية إعلامية كثيفة، إلا أن فرنسا خفّضت وجودها تدريجيًا منذ 2021، نتيجة لتقارب السلطات المحلية مع موسكو وتزايد نفوذ مجموعة “فاغنر”.

بوركينا فاسو: رحيل سريع

في مطلع 2023، طلبت حكومة بوركينا فاسو رسميًا من القوات الفرنسية مغادرة البلاد، بعد توترات داخلية واحتجاجات شعبية ترفض التواجد الفرنسي. غادرت آخر وحدة عسكرية فرنسية في فبراير من نفس العام، منهية وجودًا استمر منذ 2009.

 النيجر: انسحاب بعد القطيعة

بعد الانقلاب العسكري في جويلية 2023، أعلنت باريس رفضها للاعتراف بالسلطات الجديدة في النيجر. لكن الضغوط الميدانية والدبلوماسية أدت إلى انسحاب القوات الفرنسية في نهاية العام نفسه، بعد إنهاء الاتفاقيات الدفاعية الثنائية.

تشاد: تفكيك تحالف تقليدي

أعلنت الحكومة التشادية في 28 نوفمبر 2024 إنهاء اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا، لتنهي بذلك شراكة امتدت لعقود منذ توقيع أول اتفاق دفاعي عام 1966. وشكّل هذا القرار تحوّلاً جذريًا في علاقات نجامينا بباريس، حيث اعتُبر خطوة نحو “استعادة السيادة الوطنية”، وفق توصيف رسمي. وتمّ تسليم قاعدة “سيرجنت أدجي كوسي” الجوية، التي كانت تضم نحو 1000 جندي فرنسي، إلى الجيش التشادي بالكامل بحلول 31 يناير 2025، ما وضع حدًا لآخر وجود عسكري دائم لفرنسا في منطقة الساحل بعد انسحابها من مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

ساحل العاج: تفكيك تدريجي للتعاون الدفاعي

في ديسمبر 2024، أعلن الرئيس الإيفواري ألان واطارا عن بدء تقليص الوجود العسكري الفرنسي في البلاد، ضمن خطة لإعادة هيكلة التعاون الدفاعي. وابتداءً من يناير 2025، باشرت القوات الفرنسية تسليم قاعدة “بورت بويه” العسكرية الواقعة في العاصمة الاقتصادية أبيدجان إلى السلطات الإيفوارية، في عملية اكتملت رسميًا يوم 20 فبراير 2025. وتقرر الإبقاء على وحدة فرنسية صغيرة لا تتعدى 100 عنصر، لأغراض تدريبية واستشارية فقط. وتأتي هذه الخطوة في إطار سياسة وطنية لتعزيز القدرات الدفاعية الذاتية، مع الحفاظ على مستوى من التعاون الفني خارج مظلة الوجود العسكري التقليدي.

الأسئلة التي تُطرح الآن تتجاوز الجغرافيا العسكرية. فهل تنجح الدول الإفريقية في تحويل هذه المكاسب الرمزية إلى استقلال فعلي على مستوى القدرات؟ وهل تملك فرنسا بدائل فعلية لإعادة تموضع نفوذها دون اللجوء إلى البزات العسكرية؟ أم أن صفحة إفريقيا تُطوى تدريجيًا أمام أعين النخبة الفرنسية، بعدما بات خطاب “فرنسا الإفريقية” مكشوفًا وعديم الجدوى في عصر تتقدمه مطالب الكرامة الوطنية؟

Exit mobile version