تمر اليوم ذكرى رحيل المخرج الجزائري زكريا قدور إبراهيم، لتعيد إلى الذاكرة قيمة رجل استثنائي حمل الكاميرا بوصفها أداة للحفظ والتوثيق، لا للتسلية فقط. لم يكن مجرد مخرج، بل كان صانع هوية سمعية بصرية، ومرآة لوجدان المجتمع الجزائري في تحوّلاته. إن فقدانه لم يكن فقد مبدع فحسب، بل فقد رصيد من الوعي الثقافي والفني، ظلّ حاضرًا رغم الصمت الذي رافق ذكراه.
وُلد زكريا قدور إبراهيم في مدينة وهران عام 1947، وعشق الفن عامة والكاميرا خاصة منذ شبابه. كان من أوائل المخرجين الذين التحقوا بالمحطة الجهوية للتلفزيون الجزائري في وهران، وهناك صنع مسيرة حافلة بالإنجازات جعلت اسمه محفورًا بأحرف من ذهب في سجل الفن الجزائري.
المخرج قدور إبراهيم ترك بصماته على العديد من الأعمال الجزائرية التي دخلت الذاكرة الجماعية، من أبرزها “المفتش الطاهر يسجل هدفًا” سنة 1977، من بطولة الثلاثي الراحل حاج عبد الرحمان(سبيكتور الطاهر) ويحيى بن مبروك(لابرانتي)، سيراط بومدين، وهو العمل المصنَّف اليوم ضمن الأفلام السينمائية الخالدة في الذاكرة الوطنية. كما أخرج السلسلة الكوميدية الشهيرة “شعيب لخديم” (1990) بطولة الراحل سيراط بومدين.
كما أنجز العديد من البرامج الوثائقية والإبداعية، بينها “قافلة الجنوب” الذي كشف للجزائريين لأول مرة عن ثراء الجنوب الجزائري المجهول آنذاك، وسجّل فيه مع فريقه أغنية “الغومري” التراثية التي صارت لاحقًا جزءًا من الهوية الثقافية. وإلى جانب ذلك أخرج أعمالًا مميزة مثل “قلاع وصور”، “عبير وعبر”، “حديث الأسرة”، و”ملاحم”، ونال جوائز عربية عن بعض هذه الإنتاجات.
ولم يقتصر عمله على الدراما والوثائقي فحسب، بل قام أيضًا بتصوير أهم مسرحيات الراحل عبد القادر علولة تلفزيونيًا، فحفظها من النسيان وضَمِن بقاءها في متناول الأجيال. كان أيضًا مفكرًا مهتمًا بفكرة “الاكتفاء الذاتي الثقافي والسمعي البصري”، أي قدرة الجزائر على إنتاج صورها وحكاياتها بنفسها، بعيدًا عن استنساخ النماذج المستوردة. كان يعتبر أن الصورة الوطنية ليست مجرد فن، بل أداة سيادة وحفظ للهوية، لذلك سعى عبر برامجه وأفلامه إلى تقديم الإنسان الجزائري في تنوعه الثقافي والجغرافي، والتأكيد على أن الثقافة المحلية قادرة على مخاطبة العالم بثرائها دون الحاجة إلى وسيط خارجي.
مؤمنًا بأن الثقافة الوطنية قادرة على إنتاج صورها وسرد قصتها بنفسها.
رحل المخرج زكريا قدور إبراهيم يوم الخميس 27 أفريل 2023 عن عمر ناهز (76 عامًا)، ودُفن بمقبرة عين البيضاء في وهران. ومرت ذكراه الأولى عام 2024، وها هي الثانية تحل عام 2025 في صمت، بينما تظل أعماله شاهدًا على مسيرة فنية ثرية، وعلى رجل اختار أن يجعل من الكاميرا حارسًا لذاكرة الجزائر ووجدانها.
