بينما يلتقي قادة العالم هذا الأسبوع في نيويورك لمناقشة التحديات الاقتصادية والبيئية والسياسية التي تواجه المجتمع الدولي، تعود إلى الأذهان كلمات الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين التي ألقاها من على منبر الأمم المتحدة قبل أكثر من خمسة عقود. ففي 10 أفريل 1974، وقف بومدين مخاطبًا الدول الكبرى باسم الجنوب العالمي، داعيًا إلى نظام اقتصادي دولي جديد يضمن العدالة في توزيع الثروات والسيادة على الموارد الطبيعية. واليوم، ورغم تغير الظروف والأجيال، فإن جوهر تلك المطالب ما يزال حاضرًا في قلب النقاشات، مع تزايد الحديث عن فجوة التنمية بين الشمال والجنوب وتداعيات الأزمات العالمية على الشعوب النامية.
و ألقى الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين خطابًا تاريخيًا من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، خلال الدورة الاستثنائية السادسة المخصّصة لبحث قضايا التنمية والنظام الاقتصادي العالمي. وقد عُدّ هذا الخطاب واحدًا من أبرز المداخلات السياسية في تاريخ المنظمة الدولية، إذ رفع بومدين فيه صوت العالم الثالث المطالب بالعدالة الاقتصادية والسيادة على الموارد الطبيعية.
و قد جاءت زيارة الرئيس بومدين للامم المتحدة في ظرف دولي دقيق أعقب حرب أكتوبر 1973 وما رافقها من أزمة طاقة عالمية، وهو ما منح الجزائر، بصفتها عضوًا مؤثرًا في منظمة أوبك وزعيمًا في حركة عدم الانحياز، مكانة استثنائية. بومدين حضر إلى نيويورك على رأس وفد رسمي جزائري، ليس بصفته قائد دولة فحسب، بل كممثل لمجموعة واسعة من الدول النامية الباحثة عن موقع عادل في النظام الاقتصادي الدولي.
في خطابه، ركّز بومدين على الهوة العميقة بين الشمال الصناعي الغني والجنوب الفقير، مؤكدًا أن الاستقلال السياسي الذي نالته الكثير من الدول لا يكتمل دون استقلال اقتصادي حقيقي. وانتقد ما وصفه بـ”الاستعمار الجديد” الذي يتجسّد في تحكم القوى الكبرى في ثروات وموارد العالم النامي عبر آليات السوق والمؤسسات المالية الدولية.
أبرز محاور الخطاب تمثلت في دعوته إلى إقامة نظام اقتصادي دولي جديد (NIEO) يقوم على:
- إعادة توزيع الثروات بشكل أكثر عدالة.
- تمكين الشعوب من السيطرة الكاملة على مواردها الطبيعية دون تدخل خارجي.
- إصلاح مؤسسات التمويل العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بما يضمن تمثيلًا أكبر للدول النامية.
- عقد دولي جديد للتنمية يضع الإنسان في قلب السياسات الاقتصادية.
ولم يغفل خطاب بومدين في الأمم المتحدة عن تقديم التجربة الجزائرية بعد استرجاع السيادة على المحروقات سنة 1971، باعتبارها نموذجًا حيًا يثبت قدرة الشعوب على إدارة مواردها بعيدًا عن الهيمنة الأجنبية. كما ذكّر بأن ملايين البشر في الجنوب يعيشون تحت خط الفقر بينما تتمتع أقلية صغيرة من العالم بالرخاء، داعيًا إلى إصلاح جذري يضمن الكرامة الإنسانية للجميع.
خطاب بومدين أثار صدى واسعًا داخل قاعة الأمم المتحدة وخارجها. فقد لاقى ترحيبًا كبيرًا من دول عدم الانحياز والدول الإفريقية والعربية، بينما أثار تحفظًا من بعض القوى الغربية التي رأت فيه تهديدًا لمصالحها الاقتصادية. ومع ذلك، كان لخطابه أثر مباشر في دفع الجمعية العامة لاعتماد قرار حول إقامة نظام اقتصادي دولي جديد، وهو إنجاز سياسي ودبلوماسي عزز مكانة الجزائر كصوت مسموع وفاعل في الساحة الدولية.
لقد شكّل هذا الخطاب علامة فارقة في تاريخ الدبلوماسية الجزائرية، ورسّخ صورة بومدين كزعيم يتجاوز حدود بلده ليتحدث باسم الجنوب العالمي بأسره، مدافعًا عن العدالة الدولية وحق الشعوب في التنمية والسيادة.
