بين الروحانية والاحتفال الشعبي…وعدة سيدي محمد بن عودة كرمز للتراث الجزائري

بين الروحانية والاحتفال الشعبي، تتحول ولاية غليزان مع بداية كل خريف إلى قبلة للزوار القادمين من مختلف ولايات الوطن لإحياء وعدة سيدي محمد بن عودة، واحدة من أبرز مناسبات التراث الجزائري. هذا الحدث الممتد على مدار أيام عدة ليس مجرد تجمع فولكلوري، بل فعل جماعي يجمع بين الدين والتاريخ والثقافة والقيم الاجتماعية، ويترسخ في الذاكرة الجماعية للسكان.

وعدة  سيدي محمد بن عودة، أو سيدي “إمْحَمَّد بن عُودَة”، من كبار الصلحاء والعلماء في الجزائر . وُلد عام 972 هـ وتوفي سنة 1034 هـ، واشتهر بصفته شاعرًا وصوفيًا ومجاهدًا ومؤسسًا لزاوية علمية وروحية ما زالت قائمة بغليزان. ارتبط اسمه بنشر العلم والتقوى والإصلاح، ما جعله يحظى بمكانة مرموقة في المخيال الشعبي والرصيد الديني للمنطقة.

الوعدة التي تقام حول ضريحه تحمل أبعادًا متعددة؛ فهي مناسبة اجتماعية بامتياز، حيث تُقام حلقات الذكر والمدائح النبوية، كما تمثل موعدًا اجتماعيًا يلتقي فيه الأهالي وضيوفهم حول الولائم وتبادل الهدايا، في صورة تعكس قيم الكرم والتكافل.

وإلى جانب ذلك، تُعتبر الوعدة فضاءً ثقافيًا يعرض ملامح من الموروث الجزائري مثل عروض الفروسية أو “الفانتازيا”، التي يتفنن فيها عشرات الفرسان على صهوات الأحصنة العربية والبربرية الأصيلة القادمة من ولايات معسكر وتيارت والشلف وغليزان، لتثير إعجاب الجمهور وتؤكد استمرارية تقليد توارثه الجزائريون جيلًا بعد جيل.

كما تُعَدّ هذه  المناسبة من أبرز أشكال التراث الثقافي اللامادي في الجزائر، لأنها تقوم على ممارسات شفوية وطقوس جماعية مرتبطة بالذاكرة الشعبية والدين والتاريخ. فهي لا تختزل في مظاهرها المادية من خيام ومأكولات وفنون الفروسية، بل تتجاوزها إلى قيم التآزر الاجتماعي، وتوارث الحكايات المرتبطة بشخصية الولي سيدي محمد بن عودة. وبذلك تصبح مناسبة متكاملة تحمل في آن واحد مكونات مادية ولامادية، ما يجعلها قابلة للتصنيف ضمن عناصر التراث الوطني التي تسهم في الحفاظ على الهوية وإبراز خصوصيات المنطقة في بعدها الثقافي والديني.

تاريخيًا، لعبت الوعدة دورًا محوريًا في تثبيت الوحدة الاجتماعية بين القبائل والعشائر، إذ كانت فضاءً تُسوّى فيه الخلافات وتُعقد المصالحات، وهو ما جعلها أكثر من مجرد طقس ديني. ومع مرور الزمن، تطورت إلى احتفالية شعبية واسعة تمزج بين الجانب الروحي والموروث التراثي، وتُبرز غنى الهوية المحلية في تفاعلها مع قيم الوطنية والانتماء.

إن وعدة سيدي محمد بن عودة اليوم تمثل ذاكرة جماعية حيّة تعكس غنى التراث الجزائري وتدعو إلى المحافظة عليه، لضمان استمراره كرمز للهوية الثقافية والدينية، وكوجهة سياحية جذابة تبرز خصوصيات المنطقة.

Exit mobile version