وسط مشهد أكاديمي متحرك تتراجع فيه أحيانًا الأصوات الجادة أمام ضجيج الخطابات السطحية، يبرز اسم الدكتور زكرياء خلف الله كأحد الوجوه الشابة المثقفة والموهوبة في الجزائر. باحث في التاريخ الحديث، اختار أن يسلك طريق البحث الرصين والموثق، مقدّمًا إسهامًا جديدًا للذاكرة الوطنية من خلال كتابه: «الحرف والحرفيون في بايلك الغرب الجزائري: دراسة تاريخية من خلال المصادر المحلية والأجنبية خلال القرنين 17 و18 ميلاديين».
هذا العمل، الذي استند فيه إلى أكثر من 100 مصدر ومرجع محلي وأجنبي، لم يكتف بكشف الجوانب الاقتصادية والصناعية التي مارسها سكان المنطقة الغربية إبّان العهد العثماني، بل نفض الغبار ووضع النقاط على الحروف في الجدل الذي أثير حول القفطان، مُرسّخًا أصوله الجزائرية، كما أبرز مكانة البرنوس الزغداني المعسكري الذي ذاع صيته خارج الحدود.
وفي هذا الحوار الشيق مع موقع “الصحفي” ، تحدث الدكتور خلف الله عن تجربته الأكاديمية وتحديات البحث التاريخي، كما استحضر ملحمة معركة سيدي إبراهيم التي خاضها الأمير عبد القادر ضد الجيش الفرنسي، متوقفًا عند عبقرية القائد وسماحته الإنسانية، إلى جانب رؤيته لسبل الجمع بين الدقة الأكاديمية ومتطلبات السرد السينمائي في زمن الصورة.
الصحفي: من هو زكرياء خلف الله؟
الدكتور خلف الله : أنا باحث متخصص في التاريخ، متحصل على شهادة ليسانس “تاريخ عام” من جامعة مصطفى اسطنبولي بمعسكر، ثم شهادة ماستر في تاريخ وحضارة الحوض الغربي للمتوسط من نفس الجامعة. في عام 2017 نجحت في مسابقة الدكتوراه بجامعة وهران 1 أحمد بن بلة، وعملت طيلة ثماني سنوات على موضوع “اقتصاد بايلك الغرب الجزائري” من خلال المصادر المحلية والأجنبية. تحصلت في أفريل 2025 على شهادة دكتوراه في التاريخ الحديث. عملت كأستاذ مؤقت في عدة جامعات منها مستغانم ووهران ومعسكر، وأشغل اليوم منصب أستاذ مؤقت بالمدرسة العليا للأساتذة فرع معسكر. كما شاركت في العديد من الملتقيات والندوات الوطنية والدولية.
الصحفي: ما الذي دفعكم لاختيار موضوع “الحرف والحرفيون في بايلك الغرب الجزائري” ليكون محور كتابكم الجديد؟
الدكتور خلف الله : التاريخ المحلي يمثل حلقة مكملة للرؤية التاريخية الشاملة، خصوصًا إذا ارتبط بقضايا ذات أثر في الأحداث المصيرية. لذلك اخترت جانبًا اقتصاديًا لم يحظ بالاهتمام الكافي مقارنة بالمواضيع السياسية والعسكرية. أردت أن أضيء حياة سكان بايلك الغرب خلال القرنين 17 و18 من خلال نشاطاتهم الصناعية، مقدمًا دراسة تعتمد على مصادر محلية وأجنبية.
الصحفي: اعتمدتم على أكثر من 100 مصدر ومرجع، كيف تعاملتم مع هذا الكم الهائل من الوثائق؟
الدكتور خلف الله : لم يكن البحث طريقًا سهلًا، فقد واجهنا عراقيل عدة، أبرزها صعوبة الوصول إلى المخطوطات التي تحتفظ بها بعض الأسر، مما اضطرنا للقيام بخرجـات ميدانية داخل البلاد وخارجها، بما في ذلك تربص قصير بتركيا، كما زادت جائحة كورونا، وما رافقها من غلق للمكتبات والجامعات لعامين كاملين، من صعوبة المهمة. ورغم ذلك، واصلنا العمل بمنهجية علمية، متسلحين بالحياد والموضوعية، بعيدًا عن الأهواء والاعتبارات العاطفية.
استندنا إلى وثائق ومخطوطات ومصادر محلية وأجنبية، موظفين المناهج التاريخية المختلفة: الوصفي في قراءة نصوص الجغرافيين والرحالة، والتحليلي النقدي في مناقشة الأحداث، والمقارن لبيان أوجه الاختلاف والتشابه بين المصادر. كما استعنا بالمنهج الإحصائي عبر الخرائط والملاحق، وبالعلوم المساعدة، مثل الجغرافيا لفهم أثر العوامل الطبيعية في الأنشطة الاقتصادية، والأنثروبولوجيا لتفسير العادات والتقاليد لدى سكان الأرياف.
الصحفي: ما أبرز ما كشف عنه الكتاب من جوانب غير معروفة في تاريخ المنطقة؟
الدكتور خلف الله : من بين القضايا المهمة التي تناولتها قضية “القفطان” التي أثارت جدلًا بين باحثين جزائريين ومغاربة وحتى سياسيين. أثبتُّ عبر مصادر مغربية أن أصله جزائري. كما سلطت الضوء على الصناعات النسيجية الجزائرية، وعلى رأسها “البرنوس الزغداني المعسكري” الذي كان يُصدَّر إلى مصر وتركيا ومناطق أخرى.
الصحفي: لماذا اخترتم معركة سيدي إبراهيم لتكون موضوعًا لفيلم وثائقي قصير؟
الدكتور خلف الله : معركة سيدي ابراهيم التي خاضها الأمير عبد القادر في أواخر شهر سبتمبر عام 1845م، تعتبر إحدى أعظم ملامح المقاومة الجزائرية، والتي لا نزال نستخلص منها العديد من الدروس والعبر: حنكة الأمير عبد القادر والتي تمثلت في نصب كمين محكم للفيلق الفرنسي بمنطقة الغزوات، وقيادته للمعركة شخصيا، حيث أصيب بطلقة رصاص على مستوى أذنه اليسرى.
وكذلك احترام الأمير لحرمة الضريح “سيدي ابراهيم”، حيث رفض مداهمة المكان طيلة يومين، مانحا لما تبقى من الجيش الفرنسي فرصة النجاة، وهذا أيضا يعكس إنسانيته التي تأثر بها العدو قبل الصديق، وغيرها من الأسباب التي جعلتني أركز على هذه المعركة دون غيرها.
الصحفي: كيف توفقون بين الدقة الأكاديمية ومتطلبات السرد السينمائي في أعمالكم؟
الدكتور خلف الله : السرد الأكاديمي التقليدي لم يعد يجذب القارئ في زمن “السوشيال ميديا” والذكاء الاصطناعي. لذلك أرى ضرورة الجمع بين الدقة العلمية ومتطلبات الصورة، بحيث ننقل التاريخ عبر الصوت والصورة دون فقدان المصداقية.
الصحفي: ما مشاريعكم المقبلة في مجال البحث التاريخي أو الإنتاج الثقافي؟
الدكتور خلف الله : سأواصل البحث في موضوع اقتصاد بايلك الغرب الجزائري، وهناك إصدارات جديدة في الأفق. أما في مجال الإنتاج الثقافي فسأعمل على تناول معارك أخرى خاضها الأمير عبد القادر، مثل معركة المقطع.
الصحفي: نصيحتكم للباحثين الشباب؟
الدكتور خلف الله : أن يبتعدوا عن المواضيع التي استُهلكت بحثًا، وأن يوجّهوا اهتمامهم نحو القضايا التي لم تنل نصيبها من الدراسة بعد. وأتمنى لهم دوام التألق والتفوق.



















