في دفاتر الطب الجزائري يسطع نجم البروفيسور حسان لزرق (1922 – 7 أكتوبر 2021) بحروف من نور؛ طبيب عيون، ومجاهد، ورائد أكاديمي، جمع بين العطاء للناس والالتزام بالعلم. لم تكن مسيرته مجرّد حكاية طبيب بارع، بل سيرة وطنٍ يتلمّس النور بعد العتمة. كان من أولئك الذين آمنوا أن شفاء الجسد يبدأ من شفاء الروح، وأن الطب رسالة تُمارس بالضمير قبل اليد.
وُلد حسان لزرق سنة 1922 ببلدية الحروش في ولاية سكيكدة، وكان طفلًا لا يعلم أن القدر سيمنحه لاحقًا لقب “عين الجزائر”. لم يكن يرى في البصر أكثر من حاسة؛ بل وعدًا بالحياة ونافذة على النور، فاختار أن يجعل من جراحة العيون رسالته، وأن يكرّس عمره لترميم الضوء في عيون الناس وفي روح الوطن.
بدأ دراسته في الجزائر العاصمة قبل أن يهاجر إلى فرنسا، حيث نال شهادة التخصص في جراحة العيون من جامعة مونبوليي سنة 1954. لكن نداء الوطن كان أقوى من بريق الشهادات، فعاد إلى صفوف الثورة مجاهدًا وطبيبًا يحمل مشرطًا بدل السلاح، يضمّد جراح المقاومين في زمن النار والدم.
في خضمّ الثورة، لم يكن لزرق يحمل المشرط فقط، بل الإيمان بأن كل جرح يضمده هو مساهمة في بناء جزائر الغد. كان الطب بالنسبة إليه جبهة أخرى من جبهات التحرير، فيها الصبر والشجاعة والإيثار.
بعد الاستقلال، خاض البروفيسور لزرق حسان معركة البناء بنفس الإيمان، فكان من الروّاد الذين وضعوا أسس التعليم الجامعي الطبي في الجزائر، فأسس قسم طب العيون في وهران، وساهم في تحويل ثكنة عسكرية إلى جامعة السانيا، ثم تولى إدارة جامعة العلوم والتكنولوجيا محمد بوضياف، ليغدو أحد عقول النهضة الأكاديمية في البلاد.
تحت إشرافه، تخرجت أول دفعات من أطباء العيون الجزائريين، وكان يشجع طلابه على البحث العلمي، ويقول لهم دائمًا: “العين لا تُشفى بالدواء وحده، بل بالمعرفة التي ترى ما وراءها.”
لم يكن الطبيب لزرق مجرّد أستاذ؛ كان أبًا روحياً لأجيال من الأطباء الذين تتلمذوا على يديه أكثر من 400 طبيب عيون حملوا علمه وإرثه. ومن أبرز بصماته عيادة طب العيون بوهران، التي كانت من أولى العيادات المتخصصة في الجزائر وما تزال حتى اليوم تحمل اسمه.
نال تكريمات عدة، أبرزها وسام الشمس المشرقة من إمبراطور اليابان، واعتُبر عند وفاته في 7 أكتوبر 2021 “أحد أقطاب الوطن” كما وصفه رئيس الجمهورية.
رحل بهدوء الطبيب الذي أنار العيون، والمجاهد الذي أعاد للجزائر بصرها وبصيرتها، تاركًا وراءه إرثًا خالدًا من الأخلاق والمهنية والعلم، لأن البصيرة الحقيقية ليست في العين التي ترى، بل في القلب الذي يضيء طريق الآخرين. واليوم، حين تمرّ أمام عيادته التي تحمل اسمه في وهران، تشعر أن المكان لا يزال يفتح نوافذه على النور، وكأن روحه تهمس لكل من يعبر هناك: “ما دام في الجزائر عين تُبصر… فإن النور بخير.”



















