يبدو أن باريس، الغارقة في أكبر أزماتها السياسية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، تحاول تصدير أزمتها الداخلية نحو الخارج بحثًا عن متنفس سياسي. فمع تصاعد الاحتجاجات وتراجع الثقة في مؤسسات الحكم، تتجه بعض دوائر النظام الفرنسي إلى إحياء ملفات قديمة مع الجزائر، في مقدمتها اتفاق 1968 الخاص بالهجرة، في محاولة لصرف الأنظار عن التوتر الداخلي وإعادة تعبئة الرأي العام خلف السلطة التنفيذية.
تشير المؤشرات السياسية إلى أن الخطاب المتشدد تجاه الجزائر لم يعد مجرد تفاعل دبلوماسي، بل أصبح ورقة داخلية لإعادة ترتيب المشهد السياسي الفرنسي. غير أن هذا النهج، القائم على توظيف العلاقات الثنائية في حسابات الأزمة، يهدد بتقويض الثقة المتبادلة ويدفع نحو مزيد من التباعد بين البلدين، خصوصًا في ظل غياب رؤية واقعية لإعادة بناء الشراكة.
وفي هذا السياق، أعاد نائبان فرنسيان طرح ملف اتفاق الهجرة المبرم مع الجزائر منذ عام 1968، مطالبين بمراجعته باعتباره «غير منصف» مقارنة ببقية الاتفاقات الموقعة مع دول أخرى. وذكرت تقارير إعلامية فرنسية أن النائبين ماثيو لوفيفر وشارل رودويل أعدّا تقريرًا يقترح تعديل البنود التي تمنح – حسب وصفهما – امتيازات خاصة للجزائريين في مجالات الإقامة والعمل والدراسة.
وبرّرا مقترحهما بأن اتفاق عام 1968 «يخل بمبدأ المساواة» و«يثقل كاهل المالية العامة»، مقدّرين التكلفة بنحو (ملياري يورو)، رغم غياب بيانات دقيقة حول ذلك. وتأتي هذه الدعوة بعد سلسلة مبادرات مشابهة في البرلمان الفرنسي، أبرزها توصية لمجلس الشيوخ في فبراير الماضي وتصريحات وزير الداخلية السابق برونو ريتايو.
في المقابل، تعتبر الجزائر أن الاتفاق الهجرة المبرم مع فرنسا منذ عام 1968 فقد مضمونه الفعلي منذ سنوات، بعدما شددت باريس شروط الإقامة، ولم يعد يمنح مزايا حقيقية لمواطنيها. كما عبّر نائب عن الجالية الجزائرية في فرنسا عن رفضه لما وصفه بـ«النهج الانتقائي» في التعامل مع الملف، مؤكداً أنه يُستخدم كورقة ضغط انتخابية داخلية أكثر من كونه إطارًا للتعاون.
تتزامن هذه التحركات مع أزمة سياسية خانقة في فرنسا، حيث شهدت البلاد منذ مطلع 2024 سلسلة متلاحقة من التغييرات الحكومية. فمنذ استقالة إليزابيث بورن، تعاقب أربعة رؤساء حكومة في أقل من عامين، هم جابرييل أتال، ميشيل بارنييه، فرانسوا بايرو، ثم سيباستيان ليكورنو والذي مر على تنصيبه منذ اقل من أسبوع، ما يعكس اضطرابًا غير مسبوق في توازنات الجمهورية الخامسة.
و بعد تعيين سِبَاسْتيان ليكورنو رئيسًا للوزراء خلفًا لفرانسوا بايرو الذي سقطت حكومته عقب تصويت بحجب الثقة. وجاء تكليف ليكورنو، أحد المقربين من الرئيس إيمانويل ماكرون ووزير الدفاع السابق، في محاولة لإعادة التوازن داخل السلطة التنفيذية بعد عامين من الاضطرابات الحكومية. غير أن مهامه لم تبدأ بسهولة، إذ واجه سريعًا تحديات برلمانية حادة كادت تطيح بحكومته، قبل أن يُعاد تثبيته في منصبه بعد أسبوع من استقالة مؤقتة نتيجة خلافات داخل التحالف الحاكم.
ورغم هذا التثبيت، يظل المشهد السياسي الفرنسي هشًّا ومفتوحًا على كل الاحتمالات. فغياب الأغلبية المستقرة داخل الجمعية الوطنية يجعل حكومة ليكورنو عرضةً لتصويتات حجب الثقة في أي لحظة، فيما تتصاعد حدة الانقسامات بين الكتل اليمينية واليسارية وحزب الرئيس. ويرى مراقبون أن البرلمان الحالي قد لا يصمد طويلًا أمام الضغط الشعبي وتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ما يعيد الحديث عن احتمال حلّ الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات مبكرة قد تعيد رسم موازين القوى في فرنسا من جديد.
ويُفهم من هذا التسلسل أن الأزمة تتجاوز الأسماء إلى عمق النظام السياسي نفسه، بعد فقدان الأغلبية البرلمانية وتحول الجمعية الوطنية إلى ساحة صراع مفتوح. كما ساهمت ملفات شائكة مثل إصلاح التقاعد وتفاقم العجز المالي وتدهور القدرة الشرائية في اتساع الفجوة بين السلطة والمجتمع.



















