تمرّ اليوم الذكرى الرابعة عشرة لمقتل الزعيم الليبي معمر القذافي، في مشهد دموي فتح أبواب الفوضى على مصراعيها. وقد تمت تصفيته بطريقة وحشية، عقب تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا سنة 2011، في عملية عسكرية مهّدت الطريق أمام جماعات مسلّحة كانت معدّة سلفًا لتتسلّم زمام الميدان، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من الفوضى لم تكن في صالح الشعب الليبي، بل خدمت قوى أجنبية حولت منطقة المغبر العربي و شمال إفريقيا إلى مختبر مفتوح لتجريب نماذج “الفوضى الخلّاقة”، حيث أُضعفت الدول المركزية، وتداخلت المصالح الأمنية والاقتصادية، وبرزت شبكات النفوذ الخارجي كفاعل رئيسي في تقرير مصير الشعوب.
لم يكن مشهد مقتل القذافي في سرت سوى حلقة وسطى في سلسلة بدأت في بغداد سنة 2003، حين أُسقط نظام صدام حسين تحت شعار “نزع أسلحة الدمار الشامل” ثم أُعدم الرجل بعد محاكمة سريعة في سياقٍ طغت عليه الفوضى الطائفية والسياسية. هناك أيضًا، اختفى مفهوم الاحتلال المباشر طويل الأمد لصالح نموذج “تفويض السلطة لمجموعات محلية” او “الاستعمار الجديد” (حرب الجيل الخامس او الحرب الناعمة أو الحرب الهحينة) بعد انهيار الدولة المركزية، فكانت النتيجة نشوء الميليشيات، وتحوّل العراق إلى ساحة تنازع نفوذ بين قوى إقليمية ودولية.
بهذا المعنى، يمكن قراءة سقوط صدام كبداية لمرحلة الحروب الهجينة أو ما سمي بالحروب الناعمة في المنطقة العربية، حيث تُدمَّر المؤسسات المركزية تحت غطاء التحرير أو الديمقراطية، بينما تُدار الفوضى بذكاء هندسي لتعيد تشكيل موازين القوى بما يخدم مصالح الخارج.
بعد ثماني سنوات، جاء دور ليبيا. السيناريو نفسه تقريبًا لكن بأدوات مختلفة: لا قوات أمريكية على الأرض، بل غطاء جوي للناتو، وتفويض صريح للفصائل المحلية كي تنجز المهمة الميدانية. النتيجة: دولة مفتوحة على فراغ دائم ومرتزقة وخرائط نفوذ متداخلة.
ثم تكررت المحاولة الثالثة في سوريا، حيث وُظّفت الفصائل المسلحة، والدعم الاستخباراتي الخارجي، والتصعيد الإعلامي والدبلوماسي لنسف السلطة المركزية من الداخل. لكنّ حسابات الميدان اختلفت: الدعم الروسي المكثف وتدخّل إيران وحلفائها قلب المعادلة، ونجا الرئيس بشار الأسد من سيناريو التصفية الذي رسمته بعض الدوائر الغربية.
تحوّلت سوريا إلى ما يشبه مسرح اختبار لحروب الجيل الخامس: حرب إعلامية، ووكلاء محلّيون، وضغوط اقتصادية، وتدخلات ذكية دون غزوٍ شامل. الفارق الوحيد أنّ موسكو لم تسمح هذه المرة بانهيار الدولة، لتتغير قواعد اللعبة جذريًا.
في هذه السلسلة من صدام إلى القذافي إلى الأسد نرى تدرّجًا في أساليب الاستعمار الجديد عبر الفوضى المفوضة: من الاحتلال المباشر إلى إسقاط النظام من الجو، ثم إلى محاولة الانهاك البطيء بالعقوبات والتمويلات الرمادية للجماعات المحلية.
قد تختلف الأدوات، لكن الغاية واحدة: إعادة استعمار الدول النامية بما يضمن بقاءها هشًا سياسيًا ومفتوحًا اقتصاديًا أمام القوى الكبرى، دون أن تضطر هذه القوى إلى رفع أعلامها على أراضٍ أجنبية.
