في مثل اليوم 21 أكتوبر ، قبل تسعةٍ وعشرين عامًا، غاب عبد الحميد بن هدوقة، لكن صوته لم يخفت في الذاكرة الأدبية الجزائرية. كان أحد الآباء المؤسسين للرواية المكتوبة بالعربية، ومن القلائل الذين فهموا أن الكتابة ليست وصفًا للعالم، بل إعادة اختراعه بلغة تنبض بالإنسان.
ولد بن هدوقة سنة 1925 بقرية بني هدوقة في برج بوعريريج، وتشرّب مبكرًا الحس الوطني والوعي الثقافي. درس في الزيتونة بتونس، وهناك انفتحت أمامه آفاق الفكر العربي الحديث، فعاد إلى الجزائر بعد الاستقلال ليشارك في بناء المشهد الثقافي من موقع الكاتب الذي يرى في الأدب مشروعًا للتحرر الداخلي بعد التحرر السياسي.
تجلّى صوته الروائي منذ روايته الشهيرة “الريح الجنوب” (1971)، التي شكّلت نقطة تحوّل في السرد الجزائري، إذ نقلت الرواية من خطاب الثورة إلى خطاب الإنسان. وفي “بان الصبح” (1980) و**”نهاية الأمس”** (1982) و**”الجازية والدراويش”** (1983)، واصل بن هدوقة استنطاق الواقع ما بعد الكولونيالي، متتبعًا أثر الاغتراب والخيبة والصراع بين الأصالة والتحديث.
كانت لمساته الإبداعية تقوم على بساطة اللغة وعمق المعنى، وعلى بناء شخصيات تتحرك في فضاءٍ اجتماعي مضطرب، كأنها تبحث عن خلاصٍ أخلاقي وجمالي في عالمٍ فقد اتزانه. اشتغل على تفكيك العلاقة بين الفرد والجماعة، بين المثقف والسلطة، واعتبر أن الرواية هي “ضمير الأمة حين تصمت السياسة”.
فكرُه الأدبي ظلّ مشدودًا إلى سؤال الهوية، لكنه لم يقع في فخ التمجيد القومي الضيق؛ بل دعا إلى تعدد الأصوات والحوار بين الثقافات، وإلى أن يكون الأدب مرآةً للتحول لا للماضي الجامد. آمن أن الكاتب ليس شاهدًا فحسب، بل صانع وعيٍ جماعي، وأن الرواية لا بد أن تُكتب لتُقلق، لا لتُرضي.
رحل عبد الحميد بن هدوقة في أكتوبر 1996، لكن أثره ما يزال ممتدًا في أجيالٍ كاملة من الروائيين الجزائريين الذين رأوا في أعماله مدرسةً في الصدق الفني والالتزام بالإنسان. لقد رحل الرجل، وبقيت الريح الجنوب تهبّ كلما أرادت الرواية الجزائرية أن تتذكر بدايتها النقية.
رحل عن عالمنا يوم 21 أكتوبر 1996، بعد مسيرة أدبية حافلة جعلته أحد أبرز رواد الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، واليوم تستعيد الجزائر ذكرى عبد الحميد بن هدوقة، لا ككاتبٍ راحلٍ فحسب، بل كضميرٍ أدبيٍ حيّ علّمنا أن اللغة ليست أداة ترفٍ بل طريقٌ نحو الحرية. إن إحياء ذكراه اليوم هو استحضارٌ لقيمة الكلمة حين تكون وطنًا، ولصوت المثقف حين يكتب من أجل الإنسان لا من أجله.



















