إن دخول نيكولا ساركوزي السجن يوم الثلاثاء 21 أكتوبر 2025 المصادف للذكرى الرابعة عشرة لمقتل القذافي 20 أكتوبر 2011, حيث بدا هذا التزامن وكأنه مفارقة تاريخية غير مقصودة، تُعيد فتح ملف العلاقات الغامضة بين الرجلين وتستحضر مرحلة من أكثر الفصول حساسية في التاريخ الحديث للمنطقة.
في مطلع الألفية الجديدة، برزت العلاقة المعقدة بين الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي كصورة مصغّرة لتقاطع المصالح بين القوة الغربية والسلطة في العالم النامي. ساركوزي، بصفته قائدًا لدولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مثّل طموحات الغرب في ترسيخ نفوذه داخل منطقة المغرب العربي الغنية بالثروات، بينما كان القذافي يسعى لتوظيف موارد بلاده لبناء استقلال اقتصادي وسياسي يعيد لليبيا مكانتها الإقليمية والدولية.
هذه العلاقة التي بدأت بمظاهر الودّ والاستقبال الرسمي في قصر الإليزيه، تحوّلت لاحقًا إلى صراع مفتوح أنهى حكم القذافي، وترك آثارًا عميقة على ليبيا والمنطقة بأكملها، في مشهد يُجسّد التداخل بين المال والسياسة والنفوذ في العلاقات الدولية الحديثة.
خيمة الإليزيه… بداية المؤامرة
في ديسمبر 2007، نصب القذافي خيمته البدوية في قلب باريس، داخل حديقة قصر الإليزيه، في مشهد رمزي غير مسبوق. كانت تلك الزيارة نقطة تحوّل في علاقة الزعيمين، إذ جاءت بعد لقاءات سابقة بينهما في طرابلس عام 2005، والتي تحوّلت لاحقًا إلى محور تحقيقات قضائية حول تمويل محتمل لحملة ساركوزي الانتخابية عام 2007.
الجدل الذي أثارته خيمة الإليزيه كشف عن تداخل المصالح السياسية والمالية بين الطرفين، وعن مدى استعداد السلطة في الغرب لتجاوز الخطوط الأخلاقية في سبيل تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
القذافي حلف الناتو.. صراع السيادة و عودة الاستعمار الجديد
كان القذافي قد قاد ليبيا التي خرجت من فترات استعمار متعددة (عثماني إيطالي) نحو مشروع وطني يسعى للتحرر الاقتصادي والسياسي، فاستثمر في التعليم والطاقة والبنى التحتية، وحاول أن يجعل من بلاده قوة إقليمية مؤثرة في إفريقيا والعالم العربي.
لكن هذه الاستقلالية للبيا ما بعد الاستعمار لم ترق للدول الغربية، التي رأت فيها تهديدًا لمصالحها في المنطقة.
تحت غطاء “حماية المدنيين”، شنّ حلف الناتو عملية عسكرية في 2011 كانت فرنسا – بقيادة ساركوزي – في طليعتها، ليتحوّل التدخل إلى عملية لإسقاط النظام الليبي. وهكذا تحققت استراتيجيات “الاستعمار الجديد” بأدوات أكثر نعومة: قرارات أممية، وضربات جوية، وتحالفات محلية.
مقتل القذافي… و سياسة “الفوضى الخلاقة”
في 20 أكتوبر 2011، انتهت حياة القذافي بطريقة وحشية، لتبدأ معها مرحلة انهيار الدولة الليبية. خلّف سقوط النظام فراغًا سياسيًا وأمنيًا سمح بانتشار الميليشيات، وتفاقم التهريب، وصعود الجماعات الإرهابية في ليبيا ودول الساحل الإفريقي.
لقد أصبحت ليبيا نموذجًا كلاسيكيًا لما يُعرف بـ”تفويض السلطة للمجموعات المحلية”، أي السيطرة غير المباشرة من خلال تفكيك مؤسسات الدولة المركزية، ضمن ما يسمى بـ“الحروب الهجينة” أو “الإدارة الذكية للفوضى”.
النتيجة كانت مأساوية: انعدام الأمن، تفشي الفوضى، وتحوّل البلاد إلى ساحة مفتوحة لتنافس النفوذ الدولي. وامتدت تداعيات ذلك إلى الجوار المغاربي والإفريقي، مولّدة أزمات إنسانية وهجرات غير شرعية متصاعدة.
سؤال مفتوح على الضمير الدولي
كيف يمكن في القرن 21 أن يُقتل رئيس دولة عضو في الأمم المتحدة، وبذلك الشكل الوحشي، دون أن يثير ذلك مطالبة جادة بفتح تحقيق قضائي دولي؟
ربما لأن الضحية هذه المرة جاءت من العالم الثالث، حيث يبدو أن العدالة الدولية لا تُطبّق بالقوة ذاتها التي تُدار بها المصالح.
