الصناعة العسكرية الجزائرية.. من ورشات الثورة إلى منظومة دفاع وطنية متكاملة

تطرق تقرير لوكالة الأنباء الجزائرية إلى المحطات الأساسية التي مرّت بها الصناعة العسكرية الجزائرية منذ شهادة التأسيس في الورشات السرية إلى قيام مؤسسات متخصصة بعد الاستقلال، مبرزًا كيف تحولت خبرات المجاهدين في صنع المتفجرات والقطع إلى نواة صناعية منظمة قادرة على إنتاج أسلحة وذخائر ومركبات وآليات مدرعة، فضلاً عن تطوير قطاع الإلكترونيات والاتصالات العسكرية. وأكد التقرير أن هذا المسار اعتمد على مبدأ الإدماج الوطني للقطع والتكنولوجيا، والاستثمار في البحث العلمي وصقل الموارد البشرية لتقليص الاعتماد الخارجي ورفع جاهزية الجيش، مع إبراز دور مؤسسات مثل الإنجازات الصناعية والبناءات الميكانيكية وقاعدة المنظومات الإلكترونية في تعزيز السيادة التقنية.

يرجع أصل هذا الانخراط الصناعي إلى سنوات الثورة التحريرية، حين حول مجاهدون ميدان المعركة إلى ورشات تصنيع سرية. فقد شهدت الجبهة الغربية، وفق شهادات تاريخية، تجارب أولية في تصنيع القنابل اليدوية ثم تطورت الأمور إلى صناعة رشاشات وقطع ذخيرة، ما شكل تجربة تقنية ميدانية نقلت بعد الاستقلال إلى إطار مؤسساتي ينخرط في بناء قدرات دفاعية متكاملة. هذا التاريخ العملي أعطى الجزائر قاعدة بشرية وتقنية مكنتها من الانطلاقة في المسار الصناعي العسكري عند توفر الإرادة السياسية والدعم التنظيمي.

مع تأسيس الهياكل الرسمية المختصة في السبعينيات، مثل مديرية الصناعات العسكرية، انطلق برنامج منهجي لتأسيس قاعدة صناعية وطنية. والتقرير يشير إلى أن الهدف لم يقتصر على تصنيع قطع سلاح فقط، بل شمل تطوير آليات صيانة وتجهيزات لوجستية، وإنشاء منظومات إلكترونية للمراقبة والاتصال، وتصنيع مركبات ومعدات لوجستية ذات استخدام مزدوج مدني–عسكري. وقد أسهم هذا التوجه في تقليص الاعتماد على واردات محدّدة، وفي بناء خبرات محلية قابلة للتطوير.

شهدت العقود اللاحقة ارتفاعًا في نسبة الإدماج الوطني للقطع والمكونات وتعزيز الشراكات التقنية مع مؤسسات بحثية وطنية ودولية. كما تنوعت المنتجات لتشمل الذخائر بمختلف العيارات، وأنظمة المراقبة والرادارات، والمركبات المدرعة والخفيفة، إضافة إلى تجهيزات الاتصالات والأنظمة الإلكترونية. وأشار التقرير إلى أن البعض من هذه الصناعات طوّر تطبيقات مدنية مفيدة، مثل قطع الغيار والمولدات، ما يعكس إمكانية تحويل بعض نتائج البحث والتطوير إلى سوق مدني يعود بالنفع الاقتصادي.

الاستثمار في العنصر البشري كان ولا يزال عنصرًا محوريًا. فقد رفعت المديرية من جهودها في تكوين مهندسين وفنيين متخصصين، وربطت برامج التصنيع بمؤسسات تعليمية وبحثية لتطوير القدرات المحلية في الميكانيك، والإلكترونيات، وعلوم المواد. هذه السلسلة البشرية باتت عاملًا استراتيجيًا لضمان استمرار وتطور صناعة وطنية قادرة على الابتكار ومجاراة التطورات التقنية العالمية.

غير أن التقرير لم يغفل التحديات: الحاجة إلى تسريع وتيرة البحث العلمي العسكري، وتعزيز سلاسل الإمداد المحلية للقطع الدقيقة، وتطوير قدرات التصنيع الرقمي والميكاترونيك، بالإضافة إلى ضرورة تحسين آليات الاختبار والجودة لتحسين قابلية التصدير والتعاون الدولي. كما طرح التقرير مسألة دمج القطاع الخاص المدني في سلاسل القيمة الدفاعية بطرق مدروسة لضمان فعالية التكامل دون المساس بالخصوصيات الأمنية.

من ناحية الاستراتيجية، شدّد التقرير على أن المسار المستقبلي للصناعة العسكرية يجب أن يراعي مسارين متوازيين: الأول تحديثي داخلي يضمن حفظ الجاهزية التشغيلية للقوات؛ والثاني تنموي–اقتصادي يفتح آفاقًا للاستخدام المدني للتقنيات وتطوير صادرات ذات قيمة مضافة. وباختصار: الأمن يجب أن يبقى الهدف الأساسي، لكن الصناعة الدفاعية يمكن أن تكون محرّكًا للتنمية الصناعية الوطنية إذا ما أُحسِن توجيهها.

ختامًا، خلُص التقرير إلى أن الجزائر حققت تقدّمًا ملموسًا في بناء منظومة صناعية دفاعية وطنية قائمة على المعرفة والقوة البشرية، لكنها بحاجة للمزيد من الاستثمار في البحث والتجهيز والحوكمة الصناعية لتعزيز الاستقلالية التكنولوجية والتنافسية الإقليمية. وبلهجة ساخرة خفيفة تذكر أن حتى المدافع تحتاج إلى خدمة ما بعد البيع — فالأمن لا يكتفي بشراء الأسلحة بل يتطلب منظومة كاملة من الصيانة والتحديث والتأمين اللوجستي.

Exit mobile version