في مقال لدكتورة العلاقات السياسية ليلى نقولا، تسلّط الضوء على تحليل “حنّة أرندت” Hannah Arendt للعنف التوتاليتاري وأصوله الإمبريالية The Origins of Totalitarianism، مؤكدة أنّ الممارسات القمعية واللاأخلاقية التي تُطبَّق في المستعمرات لا تبقى محصورة في الخارج، بل تميل إلى العودة لتؤثر على الدولة المركزية نفسها. وتوضح نقولا كيف يمكن تطبيق هذا الإطار على السياق الإسرائيلي-الفلسطيني، حيث ترصد تجليات العنصرية، التجريد من الإنسانية، وعنف المستوطنين، بالإضافة إلى سياسات التوسّع المستمرة، لتبيّن أن التوحش لا يقتصر على الخارج بل يهدّد الداخل ذاته.
تشير نقولا إلى أنّ حنّة أرندت حدّدت أربع آليات رئيسية تسمح بتحوّل الحكم الإمبريالي في الخارج إلى حكم توتاليتاري في الداخل: العنصرية، العنف والحكم خارج القانون، إنتاج الأشخاص “الفائضين” أو المجرّدين من الحقوق، والتوسّع المستمر كسياسة دائمة. وترى أنّ هذه الآليات تتكامل لتخلق بيئة سياسية تسمح بقبول العنف الجماعي داخلياً.
في السياق الإسرائيلي، يلاحظ الباحثون أن هذه الآليات تتجسّد من خلال سياسات رسمية وتجارب ميدانية. فتطبيق العنصرية والتجريد من الإنسانية يظهر جلياً في الممارسات ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، حيث يستخدم الخطاب السياسي والإعلامي أوصافاً تُصنّف الفلسطينيين كـ”حيوانات بشرية” أو تهدد وجودهم، ما يجعل العنف الموجه ضدهم مقبولاً على الصعيد السياسي والأخلاقي.
إضافة إلى ذلك، يتجلّى الحكم خارج القانون في تصرفات المستوطنين المتطرّفين، الذين يمارسون العنف بمعزل عن القانون غالباً تحت حماية قوات الأمن، بينما يكرّس قانون يهودية الدولة (2018) التمييز المؤسسي ويجعل العرب داخل “إسرائيل” مواطنين من الدرجة الثانية، بما يرسّخ حالة “الأشخاص الفائضين” الذين يمكن توجيه العنف إليهم دون محاسبة.
كما أن تسليح وتمكين فرق المستوطنين المتطرّفين، وخلط دورهم مع قوات الأمن الرسمية، يؤدي إلى تآكل الحدود بين سلطة الدولة والفاعلين العنيفين، مما قد يؤدي إلى انقلاب هذه الممارسات ضد مواطني “إسرائيل” أنفسهم في المستقبل. وتشير نقولا إلى أن هذا ما حذّرت منه أرندت: عندما يقبل المجتمع الداخلي بمبدأ إمكانية حكم بعض البشر خارج القانون، فإنه يهيّئ نفسه لاستيراد التوحش من الخارج إلى الداخل.
أخيراً، تلخّص نقولا بأنّ سياسة التوسّع المستمرة، مثل دعوات تأسيس “إسرائيل الكبرى” أو الاحتلال الدائم لأراضٍ أخرى، تجعل التوسع غاية بحد ذاته، بما يعزز ديناميكيات العنف ويضعف المؤسسات الديمقراطية. وعليه، يبدو أن مسار “الارتداد الإمبريالي” الذي حذّرت منه أرندت لا يزال وارداً، وأن الدولة والمجتمع الإسرائيليين يواجهان خطر تحويل الممارسات القمعية في الخارج إلى واقع داخلي يهدد أسس الدولة نفسها.
للاشارة حنّة أرندت (1906 – 1975) مفكّرة سياسية وفيلسوفة ألمانية-أمريكية من أبرز الأصوات الفكرية في القرن العشرين. وُلدت في ألمانيا لأسرة يهودية، ودرست الفلسفة على يد مارتن هايدغر قبل أن تهرب من النازية إلى الولايات المتحدة، حيث استقرت لاحقًا ودرّست في عدد من الجامعات. عُرفت بتحليلها العميق للطغيان والعنف السياسي، وقدّمت في كتابها الشهير “أصول التوتاليتارية” رؤية تربط بين الاستعمار الأوروبي وصعود الأنظمة الشمولية في أوروبا. اشتهرت أيضًا بكتابها “إيخمان في القدس” الذي صاغت فيه مفهوم “تفاهة الشر”، مؤكدة أن أخطر أشكال الشر ليست دائمًا نتاج الكراهية أو الجنون، بل الطاعة العمياء والانفصال عن التفكير الأخلاقي.
