من «القدر المتجلّي» إلى «أرض الميعاد»، يمتد الخطّ التاريخي الذي نسج السرديات الدينية والاستعمارية ليشكل خلفية معقدة لفهم المشروع الصهيوني في جذوره وأبعاده المعاصرة. هذه السرديات لم تكن مجرد نصوص أسطورية أو دينية، بل تحوّلت إلى أدوات تبريرية لتوسّع استعماري منهجي، يربط بين الإيمان بمصير إلهي واعتبارات جيوسياسية عملية. عبر هذا المسار، تشكّل ما يمكن تسميته «مشروع الأرض الموعودة» ليس فقط في الوعي الجمعي، بل على أرض الواقع، حيث صيغت خرائط السيطرة والتقسيم، ووضعت استراتيجيات لإعادة هندسة المجتمعات، ممهّدة الطريق لمواجهة تاريخية وطويلة الأمد مع الشعوب الأصلية، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، ضمن صراع يمتد من القرون السابقة إلى الحاضر.
رودولف إل‑كاره (Rudolf El‑Kareh) هو عالم اجتماع وعالم سياسي فرنسي متخصص في الدراسات الشرق أوسطية والقضايا الجيوسياسية. يشتهر بتحليلاته العميقة للعلاقات الدولية ودور القوى الكبرى في المنطقة، ويركز على الصراعات المرتبطة بالإرث الاستعماري. يشغل منصب أستاذ جامعي في العلوم الاجتماعية والسياسية، وشارك كمستشار لمؤسسات أوروبية ودولية، كما نشر مقالات وتحليلات في صحف ودوريات مرموقة مثل Le Monde Diplomatique. يركّز في أعماله على فهم الأبعاد التاريخية والاستراتيجية للأزمات الكبرى، مثل النزاعات بين الولايات المتحدة وإيران، ويهتم بحقوق الأقليات ودور المنظمات الدولية في إدارة الصراعات.
وفي مقال مطوّل على موقع InvestigAction، يستعرض إل‑كاره التحوّلات الجيوسياسية العميقة والجذور التاريخية والتجليات المعاصرة للمشروع الصهيوني، مع مقارنته بالعقائد الإمبريالية وانحرافات النظام الدولي. فمن مفهوم «إسرائيل الكبرى» إلى أوجه التشابه المقلقة مع مفهوم الليبنسراوم النازي (المجال الحيوي)، يطرح الكاتب تساؤلات حول شرعية السرديات المؤسسة للصهيونية، وحول تفكك العالم العربي، ودور الأمم المتحدة في مواجهة أزمة وجودية تتجاوز القضية الفلسطينية إلى ما هو أبعد.
ويشير إل‑كاره إلى أن التحليل الأكاديمي، رغم أهميته، لا يغني عن إدراك الأزمة الوجودية الراهنة، التي تمس المجتمعات والدول والعلاقات مع الأرض والجغرافيا والتاريخ والثقافة والذاكرة والمستقبل. فالمشروع الصهيوني، الذي نشأ في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في سياق التنافس بين الإمبراطوريات الأوروبية، تطوّر بالتوازي مع صعود الإمبراطورية الأميركية، في علاقة معقدة مع الحروب الكبرى، بما فيها الحرب الأهلية الأميركية (حرب الانفصال)، التي مزّقت الولايات المتحدة لأربع سنوات، وما تزال آثارها الارتدادية مستمرة حتى اليوم، بما في ذلك خلال ولاية الرئيس الحالي.
من هذا المنطلق، يصبح من الضروري فهم أسس المشروع منذ نشأته، ومظاهره الراهنة، وأثره في ديناميات العلاقات الدولية وآلياتها التنظيمية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي لم تشهد هزّة شاملة كما يحدث اليوم. ويظهر واضحاً أن المشروع الصهيوني متجذّر في منطق استعماري توسّعي إلغائي، قائم على أيديولوجيا عنصرية بطبيعتها، مستندة إلى خليط من الأساطير والروايات التوراتية التي تُؤخذ حرفياً باعتبارها «خريطة طريق» وأداة تنفيذية، مدعّمة بقدرات مادية وقوة عسكرية.
هذا المشروع، منذ القرن التاسع عشر، تمحور حول القوة البريطانية ومستعمراتها السابقة (الدومينيونات)، ثم حول الولايات المتحدة، ليشكّل منظومة متجانسة تخدم رؤية جيوسياسية مشتركة. وقد أصبح استدعاء تصور «القدر المتجلّي» الأميركي طقساً متكرراً لتبرير التوسع الأميركي، مقدمًا كرسالة «ربانية» لتمدين العالم، بدءاً من الداخل الأميركي ثم عالميًا. هذه المعتقدات الإنجيلية الجذرية ليست وليدة اليوم؛ فقد تبنّا الرئيس الأميركي السادس جون كوينسي آدامز (1825–1829) فكرة والده عام 1811 حول ضرورة إقامة «وطن قومي لليهود» في «يهودا والسامرة»، ضمن سياق البروتستانتية الأوروبية، ولا سيما البريطانية، التي ولّدت التيار المعروف بـ«الصهيونية المسيحية».
ويتعزز هذا المزج بين الرواية التوراتية والمصالح الأنغلوساكسونية بالإشارة إلى وعد بلفور، لكن الأهم كان قرارات «المؤتمر الإمبراطوري البريطاني» عام 1907، الذي خلص إلى ضرورة تقسيم العالم العربي إلى كيانات متعددة، وإنشاء مستعمرة «غريبة – معادية للعرب» في فلسطين لضمان تفتيت المنطقة واستدامة انقسامها. وقد أكّد هالفورد ماكندر، مؤسس المدرسة البريطانية للجغرافيا السياسية، في رسالة عام 1919 إلى بلفور، أن موقع القدس يمنحها أهمية جيوستراتيجية مركزية للسيطرة على «جزيرة العالم» الأوراسية.
وفي هذا المناخ، تكوّن الفكر الصهيوني الاستعماري بالتوازي مع تطوره الداخلي في أوروبا، ضمن علاقة معقدة مع صعود القومية الألمانية منذ نهاية القرن التاسع عشر. وقد تناول المؤرخ شلومو ساند هذه التفاعلات بدقة في كتابه اختراع الشعب اليهودي، وتجلّت أيضًا في كتابات مفكرين وسياسيين انشقوا بدرجات مختلفة عن الخط الصهيوني مثل يشعياهو ليبوفيتز، إيلان بابيه، وأبراهام بورغ.
الركيزة الأساسية لهذا المشروع كانت «تصنيع» العلاقة بين الحركة الصهيونية والأرض، مستندة إلى شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، الذي صيغ مطلع القرن العشرين، وأسّس لاحتلال مستمر قائم على إلغاء الشعب الفلسطيني ونفي وجوده. ومثال ذلك خطابات نتنياهو حول «إسرائيل الكبرى» منذ 2024، التي تعكس استمرارًا لتاريخ طويل من التوسع وإنكار الجغرافيا والتاريخ واستبدالهما بروايات توراتية، مع تخصيص موارد ضخمة للتنقيب الأثري وصناعة «أرض مقدسة» وفق رواية مصطنعة.
وتجسدت مخططات الاحتلال الكامل في تقسيم فلسطين عام 1947، وما تلاه من نكبة 1948، التي تتواصل فصولها حتى اليوم، كما تؤكد تصريحات قادة المشروع من بن غوريون إلى الحاخامات والتنظيرات الحديثة. واليوم، يظهر سقوط الأقنعة تمامًا، مع ممارسات تتقاطع مع آليات النازية في القرن العشرين، من الإبادة المنظمة إلى السلوكيات العنصرية وتكتيكات القمع، كما حدث في جينين عام 2009، وتبلغ ذروتها في الإبادة المفتوحة في غزة.
ويندرج ضمن هذا الإطار «وثيقة عوديد ينون» (1982)، الداعية إلى تفتيت الدول العربية إلى كيانات طائفية وإثنية صغيرة، وهي نسخة حديثة من نظريات القومية الألمانية التي اعتمدها النازيون لتعطيل النظام الدولي القائم على سيادة الدول. ويسعى المشروع الحالي إلى نسف شرعية النظام الدولي منذ معاهدة وستفاليا، كما فعلت النازية بين 1933 و1939، ويظهر ذلك في تكثيف الاستيطان، ومحاولات ضم الضفة الغربية والجولان، والتدخل في سوريا ولبنان، وترويج خطاب «إسرائيل الكبرى».
وفي هذا السياق الدولي المضطرب، تحتفل الأمم المتحدة بمرور ثمانين عامًا على ميثاقها، الذي يقوم على رفض الحرب واحترام سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير المصير، وهو نقيض كامل للأيديولوجيات التوسعية، بما فيها النازية. لكن اختلال موازين القوى الحالي، مع الانحياز الأميركي للكيان الصهيوني، يضع النظام الدولي أمام اختبار وجودي حقيقي.
