منذ أن فُكّ الارتباط الرسمي بين الدولار والذهب سنة 1971 بقرار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، دخل النظام النقدي العالمي مرحلة جديدة تقوم على العملات الورقية (Fiat Money)، حيث تستمد العملة قيمتها من ثقة الأسواق وقوة الاقتصاد، لا من غطاء مادي. غير أن التطور الأهم لاحقًا لم يكن فقط تعويم الدولار، بل ربط النفط بالدولار، ما أسّس لما يُعرف بـ”نظام البترودولار”.
من الذهب إلى النفط: كيف تشكّل النظام الحالي؟
بعد انهيار نظام بريتون وودز، احتاج الدولار إلى دعامة جديدة تحفظ مكانته كعملة احتياط عالمية. وجاء الحل عبر اتفاقات غير معلنة في السبعينيات بين الولايات المتحدة ودول نفطية كبرى، تقضي بتسعير النفط حصريًا بالدولار مقابل ضمانات أمنية وسياسية.
هكذا أصبح النفط، السلعة الأكثر تداولًا في العالم، محرك الطلب العالمي على الدولار، ما منح واشنطن قوة استثنائية في تمويل عجزها والتحكم في النظام المالي الدولي.
هل بدأ تصدّع البترودولار؟
خلال السنوات الأخيرة، ظهرت مؤشرات تُقلق هذا النموذج:
- تزايد استخدام عملات محلية في تجارة الطاقة بين بعض الدول (اليوان، الروبل، الروبية).
- تنامي التكتلات الاقتصادية خارج الفضاء الغربي، مثل بريكس.
- استخدام الدولار كسلاح سياسي عبر العقوبات، ما دفع دولًا للبحث عن بدائل.
- ارتفاع قياسي في مشتريات البنوك المركزية من الذهب.
- هذه التطورات لا تعني انهيارًا وشيكًا للدولار، لكنها تشير إلى إعادة توازن تدريجية في النظام النقدي العالمي.
هل يعود الذهب كضامن للعملات؟
عودة الذهب كضامن مباشر للعملات – أي نظام شبيه ببريتون وودز – تبدو غير مرجحة على المدى القريب، لأسباب بنيوية:
- حجم التجارة والكتلة النقدية العالمية يفوق بكثير مخزونات الذهب المتاحة.
- تقييد السياسة النقدية بالذهب يحدّ من قدرة الدول على إدارة الأزمات.
- الاقتصادات الكبرى لا ترغب في التخلي عن مرونة الطباعة النقدية.
- لكن هذا لا يعني أن دور الذهب انتهى.
الذهب… ضامن غير معلن
السيناريو الأرجح هو أن الذهب يعود كضامن غير مباشر لا كنظام رسمي. أي:
- الذهب كأصل احتياطي استراتيجي يعزز ثقة العملات.
- استخدامه كأداة توازن في ميزانيات البنوك المركزية.
- ارتفاع دوره في تسوية التبادلات بين الدول خارج النظام الدولاري.
- بمعنى أدق، الذهب قد لا “يربط” العملة، لكنه يسندها نفسيًا وماليًا.
النفط والدولار: علاقة لن تنتهي سريعًا
رغم الحديث عن فك ارتباط النفط بالدولار، فإن الواقع يشير إلى أن:
- أسواق النفط العالمية، العقود، التسعير، والتأمين ما زالت دولارية.
- الدولار لا يزال العملة الأكثر سيولة وثقة.
- البدائل الحالية تفتقر إلى عمق الأسواق المالية الأمريكية.
لذلك، يرى خبراء أنه من المرجح أن نشهد تنويعًا في التسعير لا قطيعة كاملة، أي نفط بالدولار أساسًا، وبعملات أخرى جزئيًا.
المستقبل: نظام متعدد الدعائم
النظام النقدي العالمي يتجه نحو:
- دولار أضعف نسبيًا لكنه ما يزال محوريًا.
- ذهب أقوى كأصل تحوّط واحتياط.
- تعددية عملات في التجارة الدولية.
- تراجع فكرة “الضامن الواحد” لصالح شبكة ضمانات (سلة ضمانات متكونة من عدة قطاعات الطاقة الذهب , الموارد الطبيعية, ….).
كخلاصة يمكن القول أن الذهب لا يتجه للعودة كحاكم مطلق للنظام النقدي العالمي كما كان في القرن الماضي، لكنه يستعيد موقعه كلاعب محوري في حسابات الثقة والتحوّط، خاصة لدى البنوك المركزية. في المقابل، لا يواجه الدولار خطر السقوط، غير أنه لم يعد يتمتع بوضعية الاحتكار نفسها، مع بروز عملات ومحاولات تسوية خارج الإطار الدولاري. أما النفط، ورغم بقائه مسعّرًا أساسًا بالدولار، فلن يغيّر عملته بين عشية وضحاها، لكنه بدأ يفتح الباب أمام بدائل جزئية تعكس تحوّلات أعمق في موازين القوة. الخلاصة أن العالم لا يعود إلى الماضي، بل يتجه نحو نظام نقدي هجين، يقوم على تعدد الدعائم، حيث لا ذهب مطلق ولا دولار مطلق، بل توازنات دقيقة في نظام دولي لم يعد يحتمل هيمنة واحدة طويلة الأمد.


















