في عام 2007، بدأ حلم مسرح الجيب كمشروع ثقافي يبحث عن مكان للتجريب والإبداع، ولكن لم يتحقق هذا الحلم إلا في عام 2015. كان الأستاذ محمد ميهوبي، الذي راودته الفكرة منذ زمن، هو المؤسس لهذا الصرح المسرحي الذي أصبح اليوم من أبرز المشاريع الثقافية في الجزائر، خاصة في مدينة وهران. في بداياته، حمل المسرح اسم “المسرح الصغير” قبل أن يتحول إلى “مسرح الجيب”، استلهامًا من ضيق فضائه الذي لا يتسع إلا لـ 60 إلى 70 مشاهدًا، مما جعله يشبه مختبرًا فنيًا يُعيد تعريف مفهوم المسرح التجريبي.
يقع مسرح الجيب في دار الشباب مبارك الميلي، على خشبة كانت تُعرف سابقًا بمسرح عمال وهران، ثم تحولت عام 1988 إلى “المسرح التكنولوجي لوهران”. هذا التحول التاريخي في المكان يضفي بعدًا تراكميًا على هوية مسرح الجيب، الذي يجمع بين الأصالة والحداثة في آن واحد.
“مسرح الجيب” مدرسة للتكوين
يعتبر الأستاذ محمد ميهوبي أن المسرح ليس مجرد فن للمتعة والترفيه فقط، بل هو مدرسة للتكوين. وفي هذا الصدد، يذكر أن 90% من فناني الجهة الغربية للوطن تخرجوا من هذا الصرح الذي كان نقطة انطلاق لصقل المواهب الشابة. يوفر المسرح ورشات تكوينية متخصصة في الكتابة والإخراج والتمثيل، بالإضافة إلى إقامة دورات تدريبية تجمع بين النظرية والتطبيق. كما ابتكر ميهوبي مصطلح “مسرح المحاضرات”، الذي يحوّل المحتوى العلمي إلى عروض مسرحية جذابة، مما يكسر الحواجز بين الأكاديمية والفن. ولم يتوقف تأثير المسرح عند التكوين المحلي، بل امتد ليصبح نموذجًا يُحتذى به في ولايات غربية أخرى، حيث تبنت عدة جهات أفكاره المبتكرة.
من الركح إلى الشاشة: مسرح الجيب يوسّع جمهوره
تجربة مسرح الجيب لم تقتصر على العروض المسرحية المباشرة فقط، بل امتدت إلى الشاشة التلفزيونية، حيث تم نقل العديد من الحصص الفنية من على خشبته الصغيرة، مما ساعد في توسيع دائرة جمهوره وجعل المسرح أكثر تأثيرًا في المجتمع الجزائري. اليوم، يُعتبر مسرح الجيب رمزًا للثقافة الوهرانية، وواحدًا من أهم الروافد التي تُثري المشهد الفني الجزائري بإبداعات شابة تجمع بين الجرأة والاحترافية.
المسرح والتحديات الاقتصادية
رغم نجاحه الكبير، يكشف الأستاذ ميهوبي عن التحديات الاقتصادية التي يواجهها. إذ يصرّ على أن المسرح لا يُقدّم بالمجان، ويعتبر أن ثقافة الاستهلاك المجاني للمسرح تشكّل عائقًا أمام استدامته. لذا، استلهم من التجربة البريطانية نموذج “القبعة” ، حيث يُطلب من الجمهور تقديم تبرعات رمزية بعد العرض، مما يعزز من قيمة الفن في ذهنية المتلقي.
في رأي ميهوبي، لا يمكن أن يُبنى مستقبل المسرح على الدعم العمومي فقط، بل يجب أن يكون هناك تكامل بين القطاع العام والخاص. ويؤكد أنه يجب احترام استقلالية المشروع الفني عند إشراك القطاع الخاص في دعم المسرح، وأن العلاقة مع الشركاء يجب أن تقوم على الثقة في الرسالة الفنية، وعلى وعي بأن الاستثمار في الثقافة هو استثمار في الإنسان.
جيبٌ صغير، لكنه مليء بالأحلام
ورغم أن مسرح الجيب ليس بناية فاخرة ولا صرحًا يعج بالأضواء، إلا أنه فضاء بحجم الحلم وإرادة التغيير. في هذا الركن الضيق بدار الشباب مبارك الميلي، يتم اختبار الأفكار وصقل الفنانين. يرى الأستاذ محمد ميهوبي أن الإبداع لا يحتاج إلى مساحات واسعة، بل إلى رؤية واضحة وإيمان بأن الفن يمكنه تغيير المجتمع.
مسرح الجيب هو جيب صغير في الخريطة الثقافية، لكنه يحمل في طياته عالمًا من الأحلام. هذا المشروع يُثبت أن المسرح ليس ترفًا، بل ضرورة في حياة المجتمع.