تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا

بعد أن شكّلت مناورات “الأسد الإفريقي 2025” أكبر تمرين عسكري مشترك في تاريخ القارة الإفريقية، بمشاركة أكثر من 7,500 عسكري من 28 دولة إضافةً إلى فرق من حلف شمال الأطلسي (NATO) ، كشفت تقارير صحفية عن تحوّرات استراتيجية حاسمة للولايات المتحدة، حيث تتجه نحو إعادة تقييم حجمها العسكري في القارة.و قد أظهر تقرير وكالة رويترز أن قيادة إفريقيا (AFRICOM) تدرس حاليًا تقليص عدد القوات الأمريكية وإغلاق بعض القواعد، وربما دمج مهامها تحت القيادة الأوروبية (EUCOM)، في إطار جهود لتقليص الإنفاق العسكري وتبسيط العمليات خارج الوطن .

و تشهد قيادة القوات الأمريكية في إفريقيا (AFRICOM) تغييرات استراتجية ، إذ باتت الإدارة الأمريكية تدرس دورَ القيادة نفسه ومستقبلَه في القارة في ضوء إعادة هيكلة شاملة للأولويات الدفاعية والتحديات الأمنية الراهنة. تكشف التقارير أن واشنطن تنوي تخفيض عدد المنتسبين إلى AFRICOM، وتقليص قواعدها الميدانية، وربما دمجها – بشكل كامل أو جزئي – تحت القيادة الأوروبية (EUCOM)، مقابل تركيز أكبر على دعم الشركاء الأفارقة للاكتفاء الذاتي في تأمين أراضيهم.

بدأت بوادر هذا التحول تظهر بوضوح مع تقرير نشرته وكالة رويترز في 27 ماي 2025، أشار إلى دراسات تجريها قيادة أفريقيا لدراسة دمجها مع القيادة الأوروبية أو إعادة هيكلة أوسع، في إطار مسعى لتقليص الإنفاق العسكري وتبسيط العمليات. فبعد أن تجاوز عدد الجنود في عام 2024 نحو 2,000 منتسب، تدرس وزارة الدفاع الأمريكية تخفيض هذا العدد تدريجيًا، بما يتماشى مع توجيهات إدارية سابقة توجهها نحو ترشيد النفقات العسكرية في الخارج.

من جهتها، أشارت مصادر صحافية أخرى مثل “بوليتيكو” و”أسوشيتد برس” في أواخر ماي 2025 إلى تحول جوهري في استراتيجية Africom، حيث صار التركيز على “تشجيع الحلفاء الأفارقة على الاعتماد على قدراتهم الأمنية المحلية”. فقد نقلت “بوليتيكو” في 25 ماي أن القيادة الأمريكية حثّت شركاءها الأفارقة على الاستعداد لتحمل مسؤولية أمنهم بأنفسهم، مع تقليص الدعم الميداني المباشر. بدورها، أكدت “أسوشيتد برس” أن Africom بدأت فعليًا في خفض قواعدها وتوجيهاتها المباشرة، واستبدلتها بدعم استخباراتي وتقني مكثّف لتمكين الجيوش المحلية من مواجهة التهديدات داخل حدودها.

يعكس ما سبق توصيات مركزية، مفادها أن “تمكين الشريك” صار الخيار المفضل على “الاعتماد المطلق”. إذ أوضح مسؤولون كبار في البنتاغون أن التخفيضات لن تكون انسحابًا كاملًا، بل تقييدًا للوجود التقليدي لصالح منظومات دعم أكثر حداثة، تشمل:

سبق أن طرحت تقارير “AP Explains” تساؤلات حول تداعيات هذا التوجه على الاستقرار الإقليمي، فمن جانب يخفف كلفة الوجود العسكري الأمريكي ويقلل بريق القواعد الكبرى، ولكن من جانب آخر، قد تضعف قدرة بعض الدول الأفريقية (خصوصًا في الساحل وغرب إفريقيا) على مجابهة تنظيمات متطرفة تنشط وتتمدّد داخل حدودها. إذ يعود ذلك إلى أن كثيرًا من هذه الدول لا تزال تعاني من ضعف بنيتها الاستخباراتية وصعوبة العمل المشترك عبر الحدود.

على صعيد النظام المؤسسي لـAfricom، فإنّ إعادة الهيكلة المحتملة قد تشمل دمج بعض الصلاحيات مع EUCOM، الأمر الذي يشي بخفض عدد القواعد الميدانية أو إعادة تصنيفها كمواقع استخبارية صغيرة بدل قواعد قتالية واسعة النطاق. ويشير تقرير “North Africa Post” الصادر في 26 فيفري 2025 إلى أن إدارة ترامب كانت قد طرحت سابقًا خطة لخفض عدد المنتسبين في AFRICOM وإدخالها ضمن القيادة الأوروبية كاملة الصلاحيات، في سياق إصلاحات أوسع في البنتاغون تستهدف إعادة رسم دور القوات الأمريكية خارج القطع الأرضي للأراضي الوطنية.

ترافق هذه التحولات مع ضغط من بعض دوائر صنع القرار الأمريكية لتخفيض الإنفاق الدفاعي الخارجي، خاصة أن واشنطن لم تعد ترى ضرورة الحفاظ على قاعدة عسكرية كبيرة في كل دولة أفريقية؛ إذ يُمكن الاعتماد بدلًا منها على سلسلة من “المواقع العملياتية” الصغيرة التي تركز على جمع المعلومات واستخدام التقنيات الحديثة لجمع الاستطلاع والمراقبة. وقد أثبتت هذه المواقع فاعليتها في عمليات المشاركة الاستخباراتية ورصد تحركات الجماعات المسلحة، دون الحاجة إلى انتشار كثيف للقوات.

غير أن هذه السياسة الجديدة تستدعي قدرًا أكبر من التنسيق الإقليمي بين الدول الأفريقية، لاسيما أن منطقة الساحل لا تزال “بؤرة ساخنة” للتهديدات الإرهابية العابرة للحدود. كما أنّ نجاحها يتوقف على مدى استعداد جيوش عدد من الدول، مثل النيجر وبوركينا فاسو ومالي، لتحمل عبء الأمن الداخلي، وكذلك على قدرة المحافل الإقليمية (الاتحاد الأفريقي وتجمع دول الساحل) على تعزيز التعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات بسلاسة.

من منظور أوسع، يُعد هذا التحول الأمريكي بمثابة اختبار لمدى قدرة الولايات المتحدة على إعادة تموضع نفوذها في إفريقيا بعيدًا عن الوجود العسكري الكثيف، وتكريس نمط شراكة أكثر توازنًا يتيح للدول الإفريقية لعب دور أكبر في حماية أمنها. في المقابل، تستثمر قوى دولية أخرى – مثل الصين وروسيا – موارد كبيرة في توسيع نفوذها عبر تقديم بدائل عسكرية وتقنية، ما يضيف بعدًا استراتيجيًا لمفاضلة الدول الإفريقية بين شريك تقليدي (الولايات المتحدة) وآخرين يقدمون حلولًا أقل شروطًا وأكثر سرعة.

Exit mobile version