د. أمير الساعدي…الشرق الأوسط يشهد محاولات متسارعة لإعادة رسم خرائط النفوذ

في زمن تتقاطع فيه الجغرافيا مع مشاريع النفوذ وتتشابك فيه الأزمات الإقليمية تحت مظلة الصراع الفلسطيني-“الإسرائيلي”، تبرز الحاجة لفهم أعمق لتأثير هذه التوترات على دول المحيط، وفي مقدمتها العراق. فبصفته ساحة محورية تتقاطع فيها الحسابات الإقليمية والدولية، يحاول العراق التموقع كوسيط إقليمي، وسط بيئة مشحونة بالاستقطاب.

في هذا السياق، أجرى موقع “الصحفي” حوارًا معمقًا مع د. أمير الساعدي، الباحث العراقي في الشؤون السياسية والاستراتيجية,  تناول فيه جذور الصراع، تداعياته على الأمن الإقليمي، وموقع العراق ضمن خرائط التحوّل في الشرق الأوسط، إضافة إلى استشراف مآلات الدورين الأميركي والتركي، وحدود تأثير النخب العربية في المشهد الحالي.

موقع الصحفي: إلى أي مدى تسهم الصراع القضية الفلسطينية في تأجيج التوترات الإقليمية الأخرى؟

د. أمير الساعدي: علينا أن نكون واضحين: الصراع قائم منذ عدة عقود وما زال مستمرًا، ولكن هناك ترويج إعلامي وسياسي كبير يُظهر القضية الفلسطينية من جانب واحد سببًا في زيادة رقعة التوتر في منطقة الشرق الأوسط، وهو جزء من ماكينة التزييف وتزوير الحقائق الصهيوأمريكية حول حقوق الشعب الفلسطيني. فالقضية الفلسطينية ليست هي من تؤجج التوترات، بل إنها قضية مصيرية ومركزية للأمتين العربية والإسلامية، وهي قضية حقوق جديّة ضمن سقف الحقوق الطبيعية التي أقرّها القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة (المادة 51) وقرارات مجلس الأمن.

وإن ضعف دعم المطالب – ما عدا الحراك العربي والإسلامي السياسي – بحقوق الشعب الفلسطيني بما يتناسب مع قدرات وقوة الطرف المغتصب لتلك الحقوق، وهو الكيان الإسرائيلي ومن خلفه الولايات المتحدة الأمريكية ومن يساندها من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، هم من يؤججون التوترات في المنطقة، عندما يخرجون عن شرعة الحقوق والقانون الدولي، ويدفعون باتجاه التصعيد دائمًا، عندما يعززون سلب حقوق الشعب الفلسطيني بغية التوسع على حساب اغتصاب المزيد من الأراضي الفلسطينية.

وكانت تصريحات الرئيس ترامب في دورته الأولى، وما قدّمه من اعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، وخلال حملته الانتخابية لدورته الحالية، وأثناء إدارته الحالية للولايات المتحدة، تؤكد هذا التوجه التوسعي. وتلاها تمادي رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو بإعلانه رغبته في تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط في أكثر من مناسبة، وهو ما زاد من حجم التوترات في المنطقة.

ولا يمكن أن نتناسى أن المشروع الصهيوني في المنطقة سيبقى عامل تصعيد، ومصدرًا للفوضى، ولا سيّما في سعيه الدائم لتدمير أي مركز إقليمي للقوة. والمثال على ذلك هو استهداف المشروع النووي الإيراني، وضرب القدرات العسكرية والعلمية الإيرانية. وسيستمر النهج التصعيدي ذاته، حسب رؤيتهم، حتى تحقيق حلم دولتهم القومية “من النيل إلى الفرات”، وهو ما يزيد من حالة عدم الاستقرار في المنطقة، حتى وإن توجّهنا نحو حل الدولتين، الذي ما زال مرفوضًا صهيونيًا.

وكلما طالب الفلسطيني أو العربي باستعادة حقوقه، سيكون في مرمى الإرهاب، وفي دائرة توترات إقليمية، ورسائل تهديد للأمن والسلم الدوليين، على عكس ما تدّعيه النوايا المعلنة والأفعال التي يقوم بها الكيان الإسرائيلي على الأرض، في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن. وقد تكون هناك دول أخرى على قائمة التصعيد لدى الكيان لضمان ما يسمّيه “أمنه القومي” ومصالحه في المنطقة.

وبعد هذا وذاك، نجد أن الصراع على استرجاع الحقوق الفلسطينية بات مساحة مفتوحة للتصعيد وفرض الفوضى والتوترات في المنطقة، وهو ما تخشاه العديد من الدول، لا سيما تلك التي انخرطت في المشروع الإبراهيمي (اتفاقات أبراهام). فالمسألة لا تتعلق بحماس أو الجهاد الإسلامي فقط، بل تتجذّر في عمق الأرض المسلوبة، والتي، وإن طال الزمن، ستعود يومًا ما. وهذا ما يرفضه الكيان الصهيوني، ويدفع الفلسطينيين نحو الهجرة بالمزيد من الترويع والإرهاب، وهو أمر مرفوض عربيًا وإسلاميًا ودوليًا، ولكن قانون الغاب – عبر الفيتو الأمريكي – لا يزال هو الحاكم، وهو ما يدفع بالصراع إلى مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة، ما سينعكس سلبًا على العديد من الدول.

موقع الصحفي: كيف تؤثر هذه التوترات على العراق باعتباره ساحة لتقاطع النفوذ الإقليمي والدولي؟

د. أمير الساعدي: من المعلوم أن العراق يتمتع بموقع استراتيجي مهم جدًا في المنطقة، مما وضعه في موضع جذب لكثير من الارتدادات على ساحته؛ فبين الصراع الجيوسياسي الأمريكي–الإيراني، والصراع الجيو-استراتيجي الروسي–الأمريكي، يسعى كل طرف إلى أن تكون له محطة داخل الفضاء الحيوي في منطقة الشرق الأوسط، ومنها العراق، لما يتمتع به من حضور كدولة مهمة منتجة للنفط، وقد تكون قريبًا دولة مصدّرة للغاز أيضًا، فضلًا عن الطريق البري الذي يربط الشرق بالغرب، إضافة إلى ممرها المائي المتعثّر بحريًا، والذي يعزز دور الربط البري والسككي، ولا سيما أن العراق بدأ مشروعه “طريق التنمية الدولي” بدعم استثماري من عدة دول في المنطقة.

فسعي العراق لتعزيز بناء دولته يتطلب مساحة كبيرة من الاستقرار والأمن، وهو ما يعمل عليه عبر عدة وسائل سياسية ودبلوماسية، من أجل الحصول على مكانة ذات تأثير استراتيجي حقيقي في موقع توازنات القوى بالمنطقة، والنهوض بالواقع الاقتصادي، وبناء نظام ديمقراطي متوازن سياسيًا، وصناعيًا، وزراعيًا، وعلميًا.

لكن وجود هذه التوترات، التي يعزى سببها إلى ضعف الدولة في بسط مستويات أكبر من فرض سلطة القانون والدستور، يضع العراق في خانة جذب هذه التوترات إلى ساحته. ومثال ذلك ما حصل بعد تصاعد لغة القتل الصهيوني بحق شعب غزة، ومع وجود دعم شعبي ورغبة داخلية لدى العديد من الأحزاب السياسية، نشطت عدة فصائل عراقية مسلّحة بالمشاركة في رد العدوان الإسرائيلي عن أهالي غزة، وهو ما اعتبرته الدولة – رغم مواقفها الجادة والمهمة سياسيًا تجاه القضية الفلسطينية – خروجًا عن إرادتها، وتهديدًا لأمن العراق ومصالحه، حتى بلغ الأمر أن أصدرت المحكمة الاتحادية أمرًا يثبت حق الدولة في إعلان السلم والحرب.

لذلك، نشهد تنازعًا على السلطة بعدة مستويات ومن قبل جهات متعددة، قد تعززه حالة التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، ومنها الصراع العربي–الإسرائيلي، وذلك بسبب اختلاف الرؤى السياسية بين عدد من التوجهات الحزبية في العراق، ووجود بعض الارتباطات والعلاقات الاستراتيجية مع أطراف خارجية دفعت بالأمور إلى الخروج عن قدرة الدولة على السيطرة في بعض الأحيان، مما وضع العراق في قلب ارتدادات تلك التوترات الإقليمية.

موقع الصحفي: إلى أي مدى يمكن للعراق الحفاظ على سياسة الحياد أو التوازن بين المحاور المتصارعة؟

د. أمير الساعدي: العراق يسعى جاهدًا إلى تبني سياسة الحياد الإيجابي، وهو أمر صعب في ظل صراعات المصالح الإقليمية والدولية. ومع ذلك، بذلت الحكومة جهدًا ملموسًا في دعم الحوار، كما في رعاية المحادثات بين السعودية وإيران، ومحاولات التوسط بين إيران والولايات المتحدة، أو مصر وإيران.

رؤية العراق تقوم على الانفتاح تجاه كل طرف يدعم استقرار المنطقة، مع تعزيز شراكات استراتيجية تخدم مصالحه الوطنية. لكن التحدي الأساسي يبقى في الداخل، حيث توجد أطراف سياسية تملك فصائل مسلحة لها أجندات مختلفة، ما يخلق تضاربًا في المواقف الرسمية ويُضعف مسار الحياد.

موقع الصحفي: ما تقييمكم لمستقبل الوجود الأمريكي في العراق في ظل المعطيات الحالية؟

د. أمير الساعدي: هناك بعض التصوّرات السياسية التي تسعى إلى إبقاء قوات التحالف الدولي، ومنها قوات الولايات المتحدة الأمريكية، في العراق. وذلك بين محاولة الحكومة العراقية إرضاء بعض الأطراف السياسية والشعبية الرافضة لوجود القوات الأمريكية، وبين الحاجة الفعلية إلى بقاء هذه القوات من الناحية الفنية والتدريبية، لما تمتلكه من خبرات ومشورة يحتاجها العراق في استكمال جهوزيته، وتطوير قدراته وكفاءة قواته، ولا سيّما في هذه المرحلة، بعد ما شهدته المنطقة من تغيّرات، أهمها تغيير النظام السياسي في سوريا وتدمير غالب بناه التحتية العسكرية.

وبذلك ازدادت مخاطر الإرهاب الداعشي وارتداده إلى الساحة العراقية، إلى جانب ازدياد حدة الصراع الجيوسياسي بين أمريكا وإيران، والعدوان الإسرائيلي–الأمريكي على إيران، واحتمال تكراره في أي وقت قادم. ونظرًا لأن أكثر من 60% من تسليح الجيش العراقي يعتمد على الولايات المتحدة، فإن ذلك يدفع باتجاه إبقاء هذه القوات لفترة قد تكون أطول مما تم الاتفاق عليه في خطة الانسحاب الأولي، المقرّر أن يبدأ في سبتمبر/أيلول 2025، ويُستكمل في سبتمبر/أيلول 2026.

ورغم تأكيد الحكومة أن التواريخ المتفق عليها بين الطرفين ماضية في التنفيذ، حتى في ظل حالة التصعيد في منطقة الشرق الأوسط، فإنني أرى أن الأمر مرتبط، بشكل أو بآخر، بمدى التهدئة المحتملة بين إيران وأمريكا، ومدى اتفاقهما بشأن الملف النووي الإيراني، إضافة إلى استكمال بناء الوضع السياسي والعسكري والأمني في سوريا.

موقع الصحفي: كيف تنظرون إلى الدور التركي في العراق وسوريا؟ هل هو أمني أم توسعي؟

د. أمير الساعدي:  تركيا بلد ذو موقع استراتيجي قوي عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا، يسعى إلى تطوير قدراته الاقتصادية والحفاظ على مصالحه في منطقة تتقاذفها كثير من التوترات.

فالأدوار والمصالح تتغير حسب تبدّل كثير من الأوراق السياسية وتبادل المنفعة، والسعي للحفاظ على المواقع المهمة استراتيجيًا بزيادة مساحة الفضاء الحيوي في أي بلد، قريبًا كان أو بعيدًا. ولنا في حالة التنافس بين الصين وأمريكا حول التواجد في القارة الإفريقية مثالٌ واضح. والأمر ذاته ينطبق على تركيا، التي تسعى إلى أن تبقى قوة إقليمية في المنطقة، وعضويتها في حلف الناتو تمنحها ثقلًا يفرض نفسه على توازن القوى في الشرق الأوسط والعالم. ولهذا، فإن النزعة التوسعية تحت ذرائع “الأمن القومي” تبقى قائمة، وتسعى تركيا إلى ترسيخها في سوريا والعراق ودول أخرى، كما تفعل الولايات المتحدة حين تدّعي حرصها على أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية وحلفائها في المنطقة، فتغزو بلدانًا تارة، وتدعم تغييرًا ناعمًا تارة أخرى.

والأتراك لا يخفون رغبتهم في استعادة مجد الإمبراطورية العثمانية، وتوسّع استراتيجي أعمق. وإلا، فلماذا لا تزال تركيا تخصص لولاية الموصل – التي كانت تضم كلًا من كركوك والسليمانية وأربيل، إضافة إلى الموصل – ميزانية سنوية رمزية مقدارها ليرة تركية، منذ اقتطاعها من الدولة العثمانية وحتى اليوم؟

تركيا تحتاج إلى انفتاح يمنحها حيوية أكبر بين القارات الثلاث، التي تصل بينها عبر ممرات بحرية وبرية، ولهذا فهي تسعى جهدها إلى أن يكون لها موطئ قدم في كل تلك الدول، سواء في منطقة الخليج العربي أو الدول المطلة على البحر المتوسط (وليس “البحر الأبيض المتوسط”، فهذه تسمية خاطئة جغرافيًا)، أو في العراق، حيث تتداخل مع بعض الأوساط السياسية الكردية والأتراك العراقيين، بما يحقق لها بعض أهدافها في توسيع مجالها الحيوي في العراق والمنطقة، من خلال مزيد من الاستثمارات ورفع سقف التبادل التجاري.

وأرى أن سعي تركيا للمشاركة العملية في مشروع طريق التنمية الدولي، بصفتها دولة مستفيدة ومتحكمة في نهاية مسار الطريق، الذي يشكل بداية الانطلاق نحو أوروبا، هو أحد أوجه توسعها في عمقها الاستراتيجي.

موقع الصحفي: ما السيناريوهات الممكنة لتقليل تأثير التوترات الإقليمية على العراق؟ وهل يمكن لبغداد لعب دور إقليمي فعّال؟

د. أمير الساعدي: إصلاح ذات البين بين الفرقاء والشركاء في العملية السياسية، عبر تمتين وتحصين البيت الداخلي العراقي سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، من شأنه أن يُسهم في تقوية الجبهة الداخلية، ما يعزّز بدوره السياسة الخارجية وقدرتها على ردع التوترات وإيجاد حالة من الاستقرار داخليًا وخارجيًا.

لا يزال العراق يستثمر في سياسته الناعمة لتطوير علاقاته الثنائية والمشتركة من خلال اتفاقيات استراتيجية بعيدة المدى تضمن مصالحه، مستعينًا بدبلوماسية منتجة تساعده على تعزيز دوره الإقليمي والدولي. وما شهدناه من تنظيم القمتين العربية – السياسية والاقتصادية/التنموية – في بغداد، إلا دليل على سعي العراق الجاد لتعزيز قدرته على تجنيب نفسه مزيدًا من التوترات، والحفاظ على فسحة الاستقرار والأمن المتوفرة حاليًا.

إن دعم العراق لسياسة الحوار، وسعيه لتجنيب نفسه الدخول في صراع المحاور، يعزز من فرص إبعاده عن التوترات الإقليمية القائمة، كما أن الحفاظ على الهدنة القائمة بين الفصائل العراقية والحكومة من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، يسهم في ديمومة حالة التهدئة، وتخفيف حدة التوتر، مع الاستمرار في المطالبة بانسحاب القوات الأمريكية التي يُنظر إليها كقوة احتلال للعراق.

إبقاء العراق على علاقات متوازنة مع دول الجوار الإقليمي والفواعل الدولية يساعده على تنمية شراكات حقيقية تضمن ديمومة مصالحه، من دون المساس بأمن واستقرار تلك الدول والمنطقة.

ويعمل العراق على تعزيز حضوره الإقليمي والدولي عبر عدة مستويات، بدأها بدور الوساطة بين دول الجوار وعدد من الدول الأخرى، مرورًا بتنظيم مؤتمرات دولية تُعزّز هذا التوجّه. ومن أبرزها استضافته للنسخة الخامسة من “المؤتمر الدولي للمياه” في بغداد، واستعداده لإقامة النسخة الثالثة من “مؤتمر بغداد الدولي للاستقرار الإقليمي” – الذي تشارك فرنسا في تنظيمه، وبمشاركة مرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون – والمزمع عقده في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني القادم في بغداد. ويُنتظر أن يشكّل المؤتمر منطلقًا لمشاريع كبيرة تخص العراق والمنطقة، ويسهم بفعالية في تقوية الروابط بين دول الجوار، وزيادة الاستقرار الإقليمي، وتعزيز التنمية الاقتصادية.

ولا يزال العراق يسعى للعب دور الوسيط في تقريب وجهات النظر أو نقل الرسائل بين الطرفين الأمريكي والإيراني.

كما تؤكد جدية العراق في تصدّر المشهد بدعمه لصندوق إعمار كل من غزة ولبنان، ما يُعدّ محفزًا للآخرين لتبنّي الدور نفسه، والقيام بواجبهم تجاه فلسطين ولبنان وسوريا، وهو ما أُعلن عنه في قمة بغداد المنعقدة بتاريخ 17 أيار/مايو 2025.

موقع الصحفي: هل يمكن أن تؤدي هذه التوترات إلى إعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة، خصوصًا في العراق وسوريا ولبنان؟

د. أمير الساعدي: بدأت مسيرة المشروع بإعادة تموضع القوى التي سعت إلى تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط، من خلال سلسلة من الأفعال العسكرية والاقتصادية والسياسية على كلٍّ من سوريا ولبنان، ويُتوقّع أن يكون العراق ضمن هذا المشروع، الذي يُرغم على الدخول في خارطة التغيير الحاصل في المنطقة عبر عدّة مستويات اقتصادية وسياسية، من خلال إدماجه في المشروع الإبراهيمي.
هذا الأمر سينعكس بوضوح على المنطقة والدول العربية، خصوصًا على طبيعة العلاقات والتحالفات مع كل من أوروبا، والولايات المتحدة، والكيان الإسرائيلي.

وكما هو ملاحظ اليوم، فقد تحصّلت تركيا على موقع مهم في الملف السوري، وهو ما أقرّ به الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حين قال: “أعتقد أن تركيا فازت… أنقرة سيكون معها المفتاح للأحداث” في هذا البلد.
وكذلك فعل رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو عندما صرّح من على قمة جبل الشيخ في سوريا بأن: “هذه المرتفعات ستظلّ إلى الأبد جزءًا لا يتجزأ من دولة إسرائيل”، معتبِرًا أن ذلك يُمثّل تحولًا في موازين القوى الإقليمية.

أي أن التغيير قد بدأ فعليًا على الأرض، لكن السؤال المطروح:
هل يمكن أن يستقيم هذا التغيير لصالح كل الدول والكيانات الطامحة إلى استغلال هذا الاختلال في موازين القوى لصالحها لفترة طويلة؟
أم أننا سنشهد تنافسًا أو حتى صراعًا مع قوى أخرى في المنطقة لمنع حدوث تحوّل جذري في هذه الموازين والفضاءات الحيوية لبعض الدول؟

فعلى سبيل المثال، ما فقدته روسيا اليوم في سوريا… هل ستتخلّى عنه بسهولة؟
هل يمكن أن تستبدله بتوسيع نفوذها في مجالها الحيوي داخل أوكرانيا؟ أم أنها ستسعى للحفاظ على مصالحها في سوريا التي تطلب بناؤها سنوات من الاستثمار العسكري والسياسي؟

ومع تزايد الضغوط على إيران للتخلي عن دورها الإقليمي المؤثّر في عدد من دول المنطقة، بعد العمليات العسكرية التي أضعفت بنيتها العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية، هل ستقف متفرّجة على تقليص أو حتى تحييد نفوذها في الإقليم؟

لا تزال القوى الأكبر، والأكثر قدرةً على إحداث تغييرات حقيقية في موازين القوى بين مختلف أطراف الصراع – دولًا وفواعل إقليمية – مجمّدة عن الفعل، لأسباب عدة، في مقدّمتها: الشعوب، التي ما زالت تطمح إلى تغيير حقيقي يرسّخ لها الكرامة ويضمن لها حقوقها في أوطانها.

موقع الصحفي: ما المطلوب من النخب السياسية والفكرية العربية في هذه المرحلة؟

د. أمير الساعدي: يعمل بعض النخب السياسية والاجتماعية وصُنّاع الرأي أحيانًا بمهادنة للسلطة، وأحيانًا أخرى بشكل ناضج وعلمي من خلال تقديم المشورة والمقترحات وتوضيح المشكلات والأزمات، وكيف يمكن تجنّبها أو الخروج منها.
إلا أنّ دائرة التأثير ما تزال ضعيفة ولا ترتقي إلى مستوى حجم الأزمات التي نعيشها في محيطنا العربي والإسلامي، في ظل مشاريع مُعدّة مسبقًا للسيطرة على عقولنا، عبر سياسات ناعمة وعولمية صُمّمت بإتقان، مستفيدة من التطور الانفجاري في تكنولوجيا المعلومات والاتصال، لتُرسّخ هيمنة شاملة وتجعلنا بيادق في “دولة القرية الواحدة”.

ولهذا، فإنّ أي نمو في الوعي الداخلي عبر هذه النخب يُصادَر أو يُدفع خارج فضاء التأثير.
كما أنّ اهتمامات الشعوب قد تشتّتت بفعل البحث عن مستويات أخرى من القيم والمنافع الآنية، وهي – رغم مشروعيتها كحق للعيش الكريم – وُضِعت ضمن “برنامج إشغال” متقَن، يجعل من السعي وراء هذه الحقوق أولى الأولويات، ولو على حساب القضايا الجوهرية.

فعندما نسمع أفرادًا من الشعب يعترضون على مساهمة دولتهم في التبرع لفلسطين أو لبنان بحجة أنهم أولى بهذه الأموال، نُدرك أن هناك تفككًا في الروابط القيمية، بل حتى الإنسانية، داخل العديد من مجتمعاتنا.
ورغم أنّ هذا التفكك لم يبلغ ذروته بعد، إلا أنه أوجد شرخًا واضحًا يصعب ترميمه دون وعي جمعي يعيد فهم الأولويات والمبادئ التي تربطنا بباقي شعوب المنطقة من العرب والمسلمين.

انظر مثلًا إلى ما يُكتب في هذا الحوار، وتأمّل عدد من سيقرؤونه كاملًا، ومدى تأثيره عليهم.
يتّضح أن النخب السياسية لم تتمكن حتى الآن من تغيير أساليبها في التواصل والتأثير على وعي الناس، فهي لا تزال تسير وفق أدوار تقليدية وبأساليب رتيبة.

أما الشباب، فهو معطَّل نتيجة أزمات متراكمة تواجهه في حياته اليومية، ما يُعيق ارتقاء وعيه، رغم أنّنا نعوّل كثيرًا على نضوج هذه العقول لتضطلع بدورها وسط أقرانها، وتكون أكثر قدرة على مخاطبتهم بلغتهم وأسلوبهم.

نحن بحاجة إلى التسلّح بالقيم والمبادئ، ولكن بطريقة متنورة ومنفتحة على الآخرين، تضمن في الوقت نفسه الحفاظ على مصالحنا الوطنية، وتُترجم أحلامنا إلى واقع ملموس.

إن بناء الوعي يتطلب جهدًا تضامنيًا ومتكاملًا بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، لوضع أسس وقواعد عمل تُنضج هذا الوعي الجمعي، الذي تتخطفه حاليًا أدوات ووسائل مشفّرة توقعنا في فخ المصالح الآنية، وتُلهينا عن مصالح أجيالنا القادمة.

Exit mobile version